توقيت القاهرة المحلي 16:17:14 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قلبه جمرة عيناه كريستال!

  مصر اليوم -

قلبه جمرة عيناه كريستال

حسن البطل

  .. لكنه يحكي كما تحكي جمرة في كأس من الكريستال. كيف كان سيحكي لو أنه قطم طرف لسانه. قال لي، في انعطافة مفاجئة، لحديث طلي أنه يحلم، بل ويهم أن يفعل. "ليتني بلا لسان". كان الوسن مثل فراشة تنتقل من جفوني الى جفونه، وكان الطريق طويلاً بين موسكو وليننغراد. كانت وجهة القطار عاصمة القياصرة، وكانت وجهتنا في سان بطرسبرغ متحف الأرميتاج. كان السهل ابيض في نوفمبر! تخيلته، بسهولة تامة، أبكم أخرس. رأيت، بوضوح تام، أن قلبه هو الجمرة؛ وأن عينيه هما زجاجتان من الكريستال. قال لي: عوفيت. هذا هو المرام؛ مرامي. في ردهات "الأرميتاج" حظيتُ بدليلين: هو، وزوجتي. حظيت برؤيتين خفيفتين للوحات "المرحلة الزرقاء": رؤيته ورؤية زوجتي. كان بيكاسو "مجنوناً" وكان مصطفى الحلاج "مجنوناً"، وزوجتي "مجنونة" مثلهما. الرسامون مجانين حقاً! بفضل جنون هذين الرسامين التشكيليين، حظيتُ معهما بما لا يحظى به زوار ذلك "الأرميتاج"، أو "اللوفر الروسي". من الردهات الفاخرة، قادتنا الدليلة الروسية (بعد ايماءة من رأس مرافقنا الحزبي د. سيرغي سيرغييف، الى قبو، وإلى ضوء شحيح. كل تلك اللوحات الحديثة (في أوانها) الطلائعية - التطلعية، المتفلتة من ثقافة البروليتاريا الفنية والتشكيلية.. كانت هناك، محجوبة بستارة "الواقعية الاشتراكية". في ذلك القبو، وأمام تلك الروائع، لم يكن لمصطفى الحلاج لسان بالمرة .. وكانت عيناه مثل جمرتين في كأس من الكريستال. لا يوجد، حسب ظني، كريستال غير أبيض، لا توجد، حسب يقيني، جمرة غير حمراء. لسبب ما خرجت الجمرة من كأس الكريستال، لكثرة ما اشتهت عناق الخشب، الذي يحفر عليه، او يحرقه، النحات مصطفى الحلاج. لا يمكن اطفاء النار بالنار. خرجت الجمرة من قمقم كأس الكريستال، والتهمت "الأساطير" التي حفرها الحلاج، ثلاثين عاماً .. ثم لم ترتو. ذاقت طعم شواء جلد لحمه. كان "بروميثيوس" يحمل الشعلة في يده. وأما مصطفى الحلاج فقد كان يحمل الجمرة في قلبه .. ولوحاته التي لم تكن، قط، للبيع، اشترتها شهوة النار لخلود الرماد ... واشترته ايضاً إلى نوع من خلود المأساة. قطار في السهل الروسي يسعى إلى أفق بعد الأفق بعد الأفق، جعلني صديقاً للحلاج.. فهل كنت صديقه؟ يا ليتني كنت صديقه!   لوح ومعنى كان عمي "لويِّحا" إذا كانت الدبكة دبكة. قال رفيقي طلعت في قبرص. كان أبي شجي الصوت اذا كان العرس عرساً. قال رفيقي طلعت. عدت، مع "أولاد العم"؛ أولاد عم "لزَم" كما يقولون. عدنا حطام فريق تحرير المجلة المركزية. عاد توفيق الى كنف العائلة؛ وعاد طلعت الى كنف العائلة.. وأنا عدت الى كنف البلاد. لن تلحق بي أمي العجوز، التسعينية، من دمشق الى رام الله، كما لحق ولدا العم ليعيشا، سنوات قليلة، قرب الأب.. وليقوما، على التوالي، بواجب الابن في دفن ابيه بمراسيم عائلية لائقة. بدا لي "أبو طلعت" مثل هرّ هرم، أو، بالأحرى، في مثل رشاقته الغاربة، كان "لويِّحا"، وكان ذا صوت شجي .. لكنه كان صفحة من تاريخ اللجوء، وتاريخاً كاملاً في حياة المخيم. شيء ما، جينة ماء، جعلت طلعت سديد الفكر، نير العقل، كان عليّ أن أعود الى البلاد مع الرفاق، اولاد العم، لأعرف سر الحساسية المفرطة. كان طلعت قد ورث هذه الجينة النبيلة من والده. كنا نتعب وقوفاً من حكاياته الطويلة - المشوقة، وكان يرويها واقفاً على قدميه. كان ينشدها. كان يمثل، بحركاته الرشيقة، وقائعها .. واخيراً، تأتي تلويحة الغياب. كيف أمد يدي، من رام الله، لأصافح صديقي؟ كيف اقبل وجنتيه وأضمه، وأقول له: "البقية في حياتك"؟ لم يكن الموت - موتا عادياً في بيروت، ولم يكن عاديا في قبرص .. وفي البلاد عدنا الى "الموت العادي" قضاءً وقدراً، دون ان نغادر زمن الموت الاستثنائي!   هلال "بعل" كم قرناً / ذراعاً للهلال؟ ثمة حقل هلالي على مرمى نافذة بيتي الغربية. مجرد قطعة أرض تخلو، على غير العادة، من شجرة مثمرة او حرجية. مجرد قطعة ارض هلالية الشكل لا ينفك المحراث عن قلب تربتها بين فصل وفصل، ولا ينفك ثوبها الأخضر عن التجدد في فصلي الربيع والصيف. مجرد سفح تلة جرداء من الاشجار. مجرد حقل للزراعة الفصلية الحثيثة، من بقوليات وخضروات تحيط به الاشجار. في وسط ذلك الهلال، او في البقعة الاكثر انخفاضا منه، تتشكل، في السنوات المطيرة، في أيام "المربعنية" بركة من الماء. إذا رأيتها من نافذة المطبخ اصدق أن السماء جادت بالغيث حتى أروت. أحيانا تبدو البقعة لحافاً ابيض من الثلج. احيانا تبدو هلالاً طينيا. أحيانا تبدو هلالاً أخضر. هذه السنة امطرت و"أروت" قبل ان تهل "المربعنية" .. وتشكلت تلك البركة .. التي لا تلبث ان تغدو خضراء فصلاً كاملاً من العام. أسأل بائع الخضروات في القرية: بندورة بلدية؟ نعم. من هناك؟ نعم. لعلها مجرد عادة أن "استطعم" خضروات البعل. لعلها مجرد عادة أن ألقي نظرة من نافذتي الى تعاقب الجدب والخصب. هذه بلاد "بعل" أليس كذلك؟!   نقلاً عن جريدة "الأيام" الفلسطينية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قلبه جمرة عيناه كريستال قلبه جمرة عيناه كريستال



GMT 16:04 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

من يمول إعمار غزة.. وبأي شروط؟!

GMT 15:45 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

لا تتركوا الساحة لفكر التجهيل والعتمة

GMT 15:43 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

من يمول إعمار غزة.. وبأي شروط؟!

GMT 06:52 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

كيف ستكون علاقتنا مع ترمب؟

GMT 06:51 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

كبيرة آسيا

GMT 06:50 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

آلَةُ العَيشِ صِحَةٌ وشَبَابٌ

GMT 06:48 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

مصر ومضات الحضارة المتجددة

GMT 06:47 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

ترمب والحوثي... أفلح إن صدق

أبرز إطلالات ياسمين صبري وأسرار أناقتها التي تُلهم النساء في الوطن العربي

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:52 2025 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

فساتين براقة تناسب السهرات الرومانسية على طريقة منة شلبي
  مصر اليوم - فساتين براقة تناسب السهرات الرومانسية على طريقة منة شلبي

GMT 09:49 2025 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

ألوان ديكورات 2025 جريئة تُعيد تعريف الفخامة
  مصر اليوم - ألوان ديكورات 2025 جريئة تُعيد تعريف الفخامة

GMT 18:27 2021 الثلاثاء ,07 أيلول / سبتمبر

درة تتألق في مدينة البندقية بإطلالات أنيقة

GMT 13:37 2021 الثلاثاء ,07 أيلول / سبتمبر

٢٢ سفينة إجمالى الحركة الملاحية في موانئ بورسعيد
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon