حسن البطل
عذبني بهاء بن مالك بن حنيحن، الحلحولي الصغير. وسنُ النوم في عينيه، وفي يده كباية الحليب، أخذنا، والده مالك: طبيب التشريح الشرعي، و"عّمو" (أنا) و"عموّ " خالد درويش صديق أبيه. أخذنا ابن السادسة من جلال المشهد بين آخر بيوت حلحول، وتلة بلدة بيت أمر؛ ومن طقس قهوة الصباح أخذنا. .. وأخذ الضيفين، مع سيكارة أخيرة آخر الليل لليوم الطويل، بماذا نقول، صباحاً، لابن السادسة ؟ "العلم في الصغر نقش على الحجر". وسنُ الصباح يطير من عيني بهاء، ربما كما كانت تطير طيور الرخ الاسطورية، او طيور الديناصور: تتدحرج بأقدامها على سفح. بيده كأس الحليب وعلى ظهره حقيبة تلميذ الصف الاول .. ولا يمنحنا ابن السادسة ابتسامة ملائكية لابن الرابعة. لماذا ؟ هل نام على "كابوس" بعبع المجنزرة قدام البيت؟ مع سن دخول المدرسة، يبدأ سن تسقيط أسنان الحليب (هل فينا من ينسى آلام سقوط السن الأول). عيون الأطفال صريحة.. وخجل ابتسامتهم فطري جداً، كأن سقوط السن الاول "كارثة " أو "فضيحة ". كارثة الطفل بهاء أن فك الحرف، على سبورة الصف الاول، ودفتر اول، وقلم اول، تهون أمام هذا "الطلسم": لماذا الجنود اليهود - وبين بيت أبيه وبيت عمه المسافر "شبك" من نباتات الورود ثلاثة أمتار - يضحكون له.
في آخر الليل، قال لنا طبيب التشريح الذي عرفناه طالب طب في فارنا، أن طفله البكر يعاني عوارض انفصام في الشخصية: في المدرسة صورة محمد الدرة؛ وفي البيت يلقون عليه تحية الصباح. احتل الجنود بيت العم المسافر الى اميركا؛ بيت قيد "التشطيب".. وبدلاً من صباح اللعب بين الاطفال - اولاد عم، هدير محرك المجنزرة. صار بيت العم ثكنة، وشبابيكها متاريس من أكياس الرمل، وسطح البيت مغطى بقماشة رقطاء مرقعة.
يا لها من "جيرة " بدت لي ولصديقي مفارقة غريبة، كأننا قادة نظام ديمقراطي انقلب عليه العسكر؛ او كأننا قادة نظام استبدادي وضعونا في "اقامة جبرية ". ببساطة، جاء الجنود، قبل ان يكتمل اسبوع اول في صف بهاء الاول، واحتلوا بيت عمه، لان موقعه "استراتيجي" دون ان يأبهوا الى ان هذه الجيرة ستجعل بهاء وأخته الاكبر منه بعامين، يعانيان خللا طفولياً في لبناته "الاستراتيجية " الاولى: الجار والعدو؛ علم فلسطين في باحة المدرسة؛ وعلم اسرائيل على سارية طويلة يلقي بظلاله على حديقة من عشب اخضر وورود جميلة.. يذهب،كل يوم، الى الحرية ويعود الى نير الاحتلال؟!. بين آخر بيت في حلحول (منطقة "جيم") وتلة بلدة "بيت أمر" واد عريض، تحتله كل صباح "غطيطة" بيضاء إلهية النقاء، ثم تصير رغوة حلاقة الصباح على وجه "ابو بهاء" مثلاً. حلحول أعلى من الخليل؛ وبيت د. مالك هو الأعلى في حلحول. لهذا احتل الجنود البيت. آخر الليل، حضّرت نفسي لـ "محاضرة " ألقيها على الطفل بهاء، شرط ان يمنحني، اولاً، ابتسامة أسنان الحليب: اسمع يا ولد: عندما سقط سنّك رماه ابوك في الوادي. شوف الغيمة قدامك.. تحتها شجرة أسنان صغيرة. ضحك بهاء وبانت سنه الساقطة. اسمع يا ولد: الناس ناس. الناس الصغار، مثلك في الصف، يتعاركون على قلم رصاص. الناس الكبار يتعاركون على احتلال بيت عمك. بيت زائد بيت تصير بلداً. بلد زائد بلد تصير بلاداً. فلسطين بلادنا ولاّ بلاد اليهود..؟ اسمع يا ولد: أبوك دكتور، عمك صحافي.. أنت لما تكبر يمكن تصير جنديا او ضابطا. جسر من الكلمات لا يصنع جسراً بين الواقع والخيال، مثل غمامة بيضاء بين تلة آخر بيت في حلحول، واول بيوت بلدة "بيت أمر". جسر من الكلمات لا يصنع جسراً بين صورة محمد الدرة في الصف، وصورة "الجنود الجيران. اسمع يا ولد: اذا قال لك اولاد المدرسة أنك "ولد جبان" فلا تصدق. اذا عيروك أن "أبوك عميل" لانه يرد تحية الصباح من الجنود، عنك وعنه، بمثلها .. فلا تصدق. آنذاك، فقط، طار أثر النوم من عيني الولد بهاء، وحلقت الحيرة بجناحين ثقيلين من على صفحة وجهه الملائكي.. وتبرع لنا بآخر قطرات الحليب في فنجان القهوة الثالث. اسمع يا ولد: القهوة تختلط بالحليب، والناس يختلطون بالناس، لكن الحرية لا تختلط بالاحتلال.
* * *
عذبني بهاء بن مالك الحلحولي الصغير، اكثر مما عذبتني الرحلة الشاقة من ابو ديس الى حلحول. النقش على حجر أهون من جعل الاحتلال قصة من قصص الاطفال. هؤلاء الجنود - الجيران يذكرون - مثل بهاء - يومهم الدراسي الاول، سنهم الاولى التي سقطت .. لكن موقعا استراتيجيا مؤقتاً وعابراً، سيترك أثره الاستراتيجي على نفسية الطفل بهاء. هذه تجربة لم يمروا بها. مع من يلعب بهاء الطابة في فناء الدار؟ مع أخيه الرضيع؟ مع أخته الاكبر التي تحب "نط الحبلة " وليس الركض وراء الكرة. الكرة التي طارت، مثل حجر، الى فناء بيت العم الغائب حيث الجنود، فهرب الولد الى المطبخ حيث أمه. .. وقبل ان يعود الأب الطبيب ويستعيد الكرة، كانت قد عادت الى فناء الدار. أعادها الجنود، مسببين للولد بهاء حيرة جديدة.
نقلاً عن جريدة الأيام