توقيت القاهرة المحلي 10:43:58 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كنوز مبعثرة!

  مصر اليوم -

كنوز مبعثرة

حسن البطل

تقول الأسطورة: قوم من الأقوام البائدة (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) أعلوا تمثالاً جسيماً.. وفاخراً: مكان عينيه وضعوا ماستين وهاجتين. سكبوا وجهه من ذهب خالص. صنعوا جذعه من البرونز، وجعلوا له يدين من نحاس، وحوضاً من حديد، وساقين من حجر.. وأخيراً، قدمين من فخّار. تقول الأسطورة: ضربت الأرض زلزلة ما، أو ضربت التمثال صاعقة من السماء.. فإذا بتلك العجيبة وقد اختلط ماسها بذهبها، حديدها بترابها.. .. ومنذ ذلك الوقت، يواصل ابن آدم التنقيب عن الماس ليصقله، وعن التبر ليصوغه؟! * * * تذكرت هذه الأسطورة، وأنا أتصفح "الكنوز" التي تركها وراءه شاعرنا إبراهيم طوقان، كما جمعها الشاعر المتوكل طه. تمنحك تلك "الكنوز" متعة قراءة سوسيولوجية لـ "ظرف مكان/ زمان" فلسطيني، لكنها تطرح أسئلة وجيهة عن علة "تقديس" ما ندعوه "رموزنا" الثقافية.. حتى في "إبداعاتهم"! كنوز "شاعر الحب والثورة" نبّشها ووضّبها المتوكل، دون "انتقائية في التراث" علّل محاذيرها. لكن، هل أن حُكم الذي يلتقط التبر من هنا، والحجر الماسي من هناك، هو حُكم "المحقّق"، أم أن اللاانتقائية في التراث، تسمح بانتقائية وحيدة: "أن يكون عقلك وقلبك على هذه الأمة" كما يقول المتوكل في توطئته لـ "الكنوز". ربما الذائقة الشعرية هي التي تتبدل، فلا ترى في "شاعر الحب والثورة " سوى شاعر "الثورة"، صاحب الرباعيات الشهيرة: ("الثلاثاء الحمراء"، "موطني"، "الشهيد"، "الفدائي"). النبض في هذه القصائد يضرب على وتر ذائقة وطنية - حماسية لا تزال لهّابة حتى الآن. وأما الذائقة الشعرية؟!! * * * ربما وجدتُ "التبر" في نثر ابراهيم طوقان لا شعره، وظرافته في اسلوبه.. ولمحات من تنبؤاته العلمية بأن يأتينا، بعد قرن (إبراهيم طوقان 1905 - 1941) يصير فيه الورق ثميناً، فلا نحشوه بالغثّ من الأفكار.. أو توضيب الأفكار لا انتقائياً؟! "سئل الشاعر محمد بن مناذر: أي الشعراء أحب اليك؟ أجاب: الشاعر الذي أنا فيه" (ص62). ربما وجد زميلنا المتوكل بعضاً من نفسه في شاعرنا إبراهيم طوقان، فجمع لنا "كنوزه"، سواء منها الثمين أو "سقط المتاع" فأعطانا مصدراً يمكن أن يبني عليه أديب "مُحقّق" في وقت لاحق، يتفرغ لصقل الماس، وصياغة التبر ذهباً مشغولاً بدقة.. وربما تكرير النفط الخام الى أصنافه. فعلى "المحقق" أن يكون كل ما سبق.. وإلاّ، فعلى القارئ أن يتعب ليغربل عناصر "التمثال" الذي رفعه لشاعرنا إبراهيم طوقان! الجهد ملحوظ ومشكور، و"اللاتدخل" ملحوظ جداً، لكن عندما يتدخل المتوكل لا يوفق في ذلك دائماً: في (ص41) تساءل عن هفوة طوقان، الذي كتب "اللذين" بدل "الذين".. لكن في تدخل آخر (ص37) نسي كل الكلمات العامية في رسالة إبراهيم لشقيقته فدوى، وانتبه إلى "إنشا الله" بدل "إن شاء الله"! حرْص طوقان على ماله يبدو "جاحظياً": ففي رسالته إلى قدري يسأله: "هل تذكر في حياتك أنك ظفرت بقرش مني" وفي بعض شعره يبدو "إباحياً"؛ وبعض نثره يبدو "واعظاً" أخلاقياً! وهناك، أدبياً، قصة انتحال الشاعر "الأخطل الصغير" (بشارة الخوري) قصيدة "موطني" لشاعرنا طوقان، مثبّتة بمقارنة نصيّة.. أبعد ما تكون عن "التخاطر"، الذي نجده في بعض شعر طوقان من شعراء عرب سابقين زمن الجاهلية. ثمة آراء لطوقان تبدو "غير ديمقراطية ": "لا يزال المسلمون يقومون بواحد ويقعدون بموته" (ص32). الى شعره ونثره، هناك كونه صحافياً (صحفاً وإذاعة)، ومحرراً أدبياً، ومذيعاً. هنا تعثر على "كنز" حقيقي: في حديثه من إذاعة فلسطين 2/7/1940 مع المهندس ميشال سماحة، نكتشف شيئاً مدهشاً: تعاونت الأوقاف الإسلامية مع سكان المستعمرات اليهودية لتجفيف وادي الفالق (بين يافا وطولكرم) بكلفة 22 ألف جنيه فلسطيني، نصفها من الحكومة والباقي من الأوقاف والمستعمرات اليهودية. بذلك، تم القضاء على "الملاريا" في المنطقة، قبل أن تنجح إسرائيل بتجفيف بحيرة الحولة، سوى أن مشروع الفالق يبدو أنجح بكثير.. لأنه تم "على أحدث طريقة فنية لم تتبع إلا في أميركا وحدها" فصارت 8 آلاف دونم أرضاً زراعية ممتازة، بعدما كانت موبوءة بالملاريا، و40 ألف دونم أخرى صارت صالحة للسكن والاستغلال، وتعطي ثلاثة مواسم بدلاً من موسم واحد: "ست ملفوفات انحشرت في مقعد خلفي يتسع ثلاثة ركاب" (ص179). * * * هناك "كنوز" حقاً جمعها المتوكل طه، وترك للقارئ عناء التقاطها.. أو ترك للباحث أن "يحقق" ما "جُمع" بين دفتي كتاب. ملاحظة أخيرة: نعامل "رموزنا" الثقافية بكل الاحترام، لكن نعامل "رموزنا" السياسية بموضوعية أكثر.. لا تخلو من "التحامل" أيضاً. 24-9-1998 نقلاً عن "الأيام الفلسطينية"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كنوز مبعثرة كنوز مبعثرة



GMT 09:33 2025 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

ترتيبات استقبال الإمبراطور العائد

GMT 08:36 2025 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

مجدي يعقوب والعطاء على مشارف التسعين

GMT 07:59 2025 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

هل مسلحو سوريا سلفيون؟

GMT 07:58 2025 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

عند الصباح

GMT 07:57 2025 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

أزمة الغرب الخانقة تحيي استثماراته في الشرق الأوسط!

GMT 07:56 2025 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

القرضاوي... خطر العبور في الزحام!

GMT 07:54 2025 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

مخاطر الهزل في توقيت لبناني مصيري

GMT 07:52 2025 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

لعنة الملكة كليوباترا

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:52 2025 الخميس ,09 كانون الثاني / يناير

ميس حمدان تصرح الظهور كضيفة شرف لا ينتقص من مكانتي الفنية
  مصر اليوم - ميس حمدان تصرح الظهور كضيفة شرف لا ينتقص من مكانتي الفنية

GMT 09:13 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

GMT 00:03 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

بايدن يُكرم ميسي بأعلى وسام في أمريكا

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon