حسن البطل
على طاولة في المقهى، يجلس إليها الزميل توفيق، ثلاث علب دخان: "أوروبا" و"مارلبورو" و"غولواز". ما يبدو لغير "الخرمنجية" ناشزاً، لا يبدو لهم غريباً.
دون شطارة المفتش "كولومبو" كانت جميع السكائر في العلب الثلاث عليها علامة EURO، وجميع العلب محشوة بـ "دخان عربي"، تباع كل علبة من عشرين سيكارة بـ ٥ شواكل (كانت أربعة).
في حقول منطقة جنين بخاصة، وفي بيوت يعبد تجري زراعة الدخان، وتصنيع "الدخان العربي" في بيوت يعبد بخاصة، توفيق مدخن شره ومدمن يمجّ سكائره المتلاحقة (علبتان الى ثلاث يومياً) حتى الفلتر، وهو يدفع 10 شواكل يومياً، بدلاً من دفع ٤٢ الى ٥٣ شيكلا.
سألت توفيق سؤالاً مماحكاً عن "السوق الموازية" أو "السوق السوداء" الرائجة بين المثقفين الطفرانين بخاصة، فقال: "عاصمتي هي يعبد"، أي "عاصمة الخرمنجية" كما رام الله العاصمة الادارية، والخليل التجارية - الصناعية، ونابلس التجارية.
صارت أسعار الدخان في فلسطين أوروبية او شبه اوروبية، اقتداء باسرائيل، حسب بنود برتوكول باريس الاوسلوي. أذكر أن سعر علبة "البارلمانت" في غزة كان ٨ شواكل مطلع عقد التسعينيات، وصار سعرها ٢٦ شيكلا، فاضطر صديقي درويش السينمائي المدمن على هذا النوع أن يقلل استهلاكه اليومي من ثلاث علب الى علبتين.
فيما مضى، كان مدخنو "العربي" من كبار السن يلفون ويدخنون "الهيشي"، وصار الشباب من المثقفين يدخنون سكائر جاهزة، مغلفة بجيب من السيلوفان بسعر ٤ شواكل لكل ٢٠ سيكارة، ثم تطورت أساليب هذه السوق الموازية والرخيصة الى التعبئة بعلب من "الكارتون" العجيب يحمل اسماء غريبة، ودون ورق قصدير او غلاف من السيلوفان، فهي تُستهلك اولاً بأول، فور تصنيعها تقريباً!.
طائفة اخرى من "الخرمنجية" اختارت طريقاً آخر، وهو دخان اللّف من ماركات اجنبية، يتم التزود بها من السوق الاسرائيلية بعد حظر بيعها، لأسباب تجارية، عن السوق الفلسطينية، او يتم التوصية عليها او التزود بها من مطارات الدول العربية، او الأوروبية ايضاً، اضافة الى "كروزات" السكائر من الماركات العالمية، وبسعر متفاوت، لكنه يقلّ عن سعر السوق الفلسطينية المرتبطة سعرياً بالسوق الاسرائيلية.
سعر علبة سكائر اللف يتراوح، إسرائيلياً، يعني ٥٠ - ٦٥ شيكلا، وكل علبة تكفي "الخرمنجي" اربعة ايام او أسبوعاً، اي اقل من سعر علب الدخان في السوق، عدا عن انها اقل ضرراً كما يقال، وربما اكثر نكهة كما يقول "الخرمنجية" وبطيئة الاحتراق ايضاً.
بعض المدخنين المدمنين تحولوا الى "الشيشة" بنوعيها: "التنباك" و"المعسل" عن وهم أنها أقل ضرراً، ولكن تدخين "رأسَي" اركيلة او ثلاثة أمر مكلف لا يقل عن كلفة علب الدخان الأجنبي.
حفاظاً على حقوقها المالية من الضرائب المفروضة بنسبة مئات في المائة، في فلسطين وبنسبة اقل في الدول المجاورة، حاولت السلطة ضبط استهلاك "الدخان العربي" لأنها تتكبد خسائر ضرائبية .. ولكن دون جدوى، ولا تنقص السلطة مشاكل امنية مع قطاعات أخرى من شعبها .. وبعضها من خانة "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"!
الطريف في الأمر، أو هي "شطارة" توزيع وترويج الدخان العربي، ان تصنيعه في علب كرتونية بأسماء غريبة، ثم التحول عنه الى إعادة تعبئة سكائر الدخان العربي في علب فارغة من الدخان الأجنبي.
طرق الالتفاف والاحتيال كثيرة، مثلاً، كانت بيوت يعبد تطرح في السوق علب دخان مقلدة تقليداً مضحكاً محشوة في علب "روتمان".. وعليها عبارة: "احذروا التقليد" بدلاً من تحذيرات صحية على العلب من إنتاج شركة سكائر القدس، او إنتاج ماركات سكائر عالمية. تقليد يحذر من التقليد!
ميزة رخص علب الدخان العربي ليست بدون بعض العيوب التي صارت لا تخفى على "الخرمنجية" وهي تفاوت كبير في نكهتها القياسية، ما أرغم البعض على العودة الآسفة لشراء الدخان الرسمي الغالي.
يقول المسافر الفلسطيني الى صديقه المقيم: بماذا توصّي؟ والغالب تكون التوصية "كروز" دخان اجنبي او علب دخان لفّ، بحيث صار للجسر على نهر الاردن اسم رابع، وهو "جسر الدخان"، ولا يستطيع رجال الجمارك الفلسطينيون على الجسر تفتيش جميع المسافرين لضبط الكمية القانونية من "الكروزات" وبالأحرى علب دخان اللف الأوروبي والأميركي، حيث يتزود كل مدخن مسافر بما يستطيع من أعداد العلب تكفيه بين سفرة وأختها، او توصية وأخرى.
كل المدخنين يعرفون أضرار الدخان، ونصائح وطرق الإقلاع، لكن ما يهمهم، في أكثرهم، هو الأسعار.
"دخن عليها تنجلي" وهموم الفلسطينيين كثيرة، او "الدنيا كأس وسيكارة" كما يقول اللبنانيون، لأنها وقت قصير من العمر القصير؟!