حسن البطل
تصل الإيعازات، عبر الميكروفون، من قائد المعسكر واضحة إلى آذان ١٢٠٠ من طلاب "الفتوّة" إلا واحداً هو أنا. تصلني لغطاً تزيده حركة الطابور تشويشاً، تتداخل الايعازات مع صوت ضبط الأقدام، وحتى حفيف الملابس.
"كراديس" متراصّة، قد تشكل كتائب أو سرايا. جهاز تقوية السمع في أذني اليسرى لا يميز بين ايعاز "إلى اليمين در" وإيعاز "إلى اليسار در" ولا يميزهما من إيعاز "وقوف .. قف" أو "الى الوراء در".. أو حتى "رتلاً ترادف".
"كراديس"، وفي كل صف من الكردوس ثمانية فتية يرتدون الكاكي البسيط. طبيب المعسكر، وهو مقدّم، أمر قائد المعسكر وهو رائد، فأمر هذا الملازم ثان، مدرّب الفتوة في مدرسة جول جمال الثانوية في دمشق أن يعاقبني، فوضعني على رأس الطابور، إذا تقدّم للأمام، وبالذات إذا تلقى الإيعاز "الى اليسار سر".
الأمر أشبه بطرائف إسماعيل ياسين في الجيش، في البحرية، في الطيران. هذه أفلام كوميدية، وما يجري هو عقاب في ساحة معسكر الفتوة، صيف العام ١٩٦٣، لتلاميذ صفوف الحادي عشر لجميع مدارس مدينة دمشق ومحافظتها، هو تدريب جدّي وفق "نظام ..انضم".
لو كنتُ في مكان غير الصفّ الأول من الرتل الأول، الكردوس الأول، وفي غير يسار الصف الأول، ولكنه كان عقابي، وعليّ أن أقود طابور ١٢٠٠ طالب إذا تقدم، وإذا تلقى إيعاز "الى اليسار سر"!
عليك أن تسبل ذراعك اليسرى، وتراوح خطوتين في حركة أقدامك. اللعنة! كيف لا تبدو حركتك شاذة و"مسخرة"؟ بلمحة من طرف عينك اليمنى، الى طالب الفتوة على يمينك، تمنحك وقتاً خاطفاً من عشر الثانية، لتبدو وكأنك تقود الطابور وفق الإيعاز.
انتهى العرض بسلام، لكن ليس تماماً، إذ قال لي مدربنا الملازم: "أنت كذّاب" في ذريعة طلبك الإعفاء الميداني الطبي من المعسكر في يومه الأول. ضابط غبي صار ضابطاً شريراً. طبيب المعسكر كان غبياً، لم يسألني عن تقرير طبي لتخطيط السمع، لكن قال لملازمي، في خيمة الفحص! هذا يخدعنا!
أنا كنت الغبي - الذكي، التقطت حركة شفاهه، وقلت: يا سيدي لا أخدعك .. هذا تقرير طبي يعفيني من جندية "خدمة العلم". لا فائدة. حكم المطلوب لخدمة الجيش غير حكم طالب الفتوة، فإن وصل التلميذ للصف العاشر، فهذا يعني أن لا اعفاء من تدريب "الفتوّة".
في تدريبات طابور الصباح للصف العاشر قبل المعسكر، كان علينا الهرولة عراة القسم العلوي. لا مكان لجهاز تقوية السمع سوى في كفّ يدي اليسرى. ربما كان الضابط منضبطاً، ولم يغفر لي "التمرد" مع زمرة طلاب على وقوع الانفصال السوري أيلول ١٩٦١.
"نحن عسكر .. والسياسة للساسة" قال، لكننا تلاميذ - أولاد ولو في تنظيم شبه عسكري - شبه مدني ثلاث مرات أسبوعياً.
الملازم أوغل وتفنن في "معاقبتي" بعد نجاحي في قيادة بعض حركات طابور الـ ١٢٠٠ طالب، واختارني بالذات "ديدباناً" ليلياً للمعسكر. عليك أن تمسك بارودة موديل ١٩٣٦ الفرنسية التي ترمي طلقة - طلقة، وهي سلاح التدريب لطلبة الفتوة مع سلاحي رشاش "الساموبال" غدّار زر الأمان، وبندقية فرنسية نصف آلية موديل ١٩٤٨.
عليك أن تقف منفرج الساقين، وأخمص البندقية على الأرض، وأن تفتح عينيك وأذنيك، لأن الملازم سيأتيك تسللاً من خلفك ليشل حركتك، ويطبق على خناقك بذراعه .. مجرد تدريب.
ماشي الحال، اجتزت امتحان "الديدبان" فسهل عليّ كثيراً، اجتياز بحيرة نبع بردى سباحة على حبل بين طرفيها، ووضعت جهاز تقوية السمع فوق رأسي، وتحت القبعة.
حمدت ربي لأن الملازم لم يخترني لتدريب الفجر لرماية "الرمانات" او القنابل اليدوية الهجومية: قف وقفة الرامي. ارفع ذراعك اليمنى بالقنبلة. حرّر مسمار الأمان. اقذف القنبلة .. انبطح أرضاً فوراً.
ملازم غبي. قائد معسكر غبي. طبيب معسكر غبي.. لكن العسكري الذكي كان جنرالاً - طبيباً روسياً، سألني عبر أخي: كيف تعلمت حتى الجامعة؟ قلت في مدارس عادية. قال: لدينا حالات في مثل حالتك وهم "عالة على المجتمع" .. نصيحتي أن تترك جهاز تقوية السمع، وتواصل تحسين أسلوب قراءة الشفاه.
عملت بنصيحة الجنرال الطبيب الذي شهد أهوال المعارك مع "النازي". قال: كيف عرفت؟ قلت قرأت وجهك صورة عن روايات الحرب .. فوقف واحتضنني. "ستكون رجلاً" قال.
* * *
سألني عرفات: كيف تعلمت؟ في مدارس عادية. قال: انت من معجزات شعبنا.. هذه مداعبة.
نقلاً عن "الأيام"