٢٩ أيار ٢٠٠٧ - ٢٩ أيار ٢٠٠٨ مرّت سنة، أو عام، او قالت العرب: حال الحول. بعد سنة من مصرع (التايغر) حال الملصق سريعاً. أكاليل الزهور والورود اليافعة جفّت. نباتات كانت دائمة الخضرة ماتت .. وبقيت تلك النبتة في تلك الجرّة .. وعلى الجدار بلاطة رخام.
اسمه الكامل: عمر محمد مصطفى عبد الحليم. اسم الحرب - الكودي (التايغر). عندما كان الملصق يافعاً تأملت صورته. له محيّا يشبه وجه النمر الوديع؛ لعينيه شكل عيون النمر.
صباح ٢٩ أيار ٢٠٠٨ استرجعتُ شريط الساعة السابعة مساءً ٢٩ أيار ٢٠٠٧ في تلك الساعة من ذلك اليوم، جاد الشاب بأنفاسه الأخيرة على زاوية الرصيف حيث مطعم الناصرة الشهير للفول والفلافل. مطعمي شبه المعتاد .. ومطعمه!
هو كان، قبل دقائق، أنهى وجبته الأخيرة. صحن حمص او فول .. او مخلوطة منهما. وأنا كنتُ في طريقي الى مقهاي المعتاد (مقهى الكرامة) لفنجان قهوة المساء المعتاد. تلوب سيارة (الأيام) بحثاً عن طريق فرعي غير مقطوع.. عبثاً. رصاص يئزّ. قنابل غاز ابيض او قنابل إشارة ملونة الدخان. حجارة وزجاجات متطايرة. كانت تلك الزاوية على ذلك الرصيف ساحة إعدام ضيقة. (التايغر) وحده والقتلة عديدون .. انسحب القتلة تحت وابل من الحجارة والزجاجات الفارغة.
ماذا تفعل رصاصات من مسافة نصف متر برأس إنسان، فتى في ريعانه الـ ٢٢، ملقى جريحاً على الرصيف؟ يقولون: طلقة إجهاز، او يقولون: طلقة التحقق من الموت، او يقولون: رصاصة الرحمة. لم يرَ أحد غير القتلة اختلاجته الأخيرة. حمله الشباب جثة هامدة.
كرهتُ ركني المعتاد في المقهى الذي يطلّ على مسرح الجريمة. عافت نفسي كأس الشاي المسائي. التجأت الى المقهى المجاور (مقهى رام الله). عافت نفسي كأس الماء، لأن صديقه رمزي، عامل المقهى، كان ينحب ويبكي دمعاً هتوناً.
مثلي تمرّ السابلة على ذلك الرصيف بين جرّة تتوجها نبتة خضراء شوكية متقشفة، صحراوية، غير محبّة للماء.. وبين لوح من الرخام على الجدار، نُقشت عليه مفردات حياته وموته.. لكن، لا أمرُّ مرور الكرام مثل السابلة.
عاهدته إن حال الحول أن اذكركم به. لا أعرفه.. ولا أنساه. شاب آخر من شباب في ميعة العمر سقطوا على هذا الرصيف او ذاك. لأجداثهم قبورها في المقابر.. وحيث جادوا بأنفاسهم الأخيرة، لهم جرّة ونبتة ولوحة من رخام، أو أحياناً - اذا سمح المكان - شجيرات ورد دائمة وشجر ينمو عاماً فعاماً، كتلك القرنة في شارع السهلة - رام الله التحتا، مقابل (مخبز العربي)، حيث قتلوا قائداً في سرية كشافة، تعرفه أيام رام الله حاملاً (عصا الماريشالية)، ملوّحاً بها في الفضاء ومطوّحاً بها .. ولا مرة سقطت العصا من يديه. سقطت بندقيته وسقط معها .. فاضت روحه.
لسبب لوجستي أمني، في آخر شارع يافا، آخر بلدة بيتونيا، مفرق طرق يسمّونه (مفرق الـ ١٧)، ربما كان يشكل حدود السيادة الفلسطينية (منطقة أ)، وربما لسبب آخر اختارها الناس الطيبون لتحيّة ذكرى الشهيدين عبد الرحيم وعليان (اسم كنيتيهما)، ولسبب ما اختاروا مفرق طرق اصغر ليس بعيداً لتحية ذكرى الشهيد علاء البريه. نقش على حجر. مستديرة صغيرة تنظم السير.
زمان، كانوا يكتبون على الجدران (العاصفة مرت من هنا) خط سريع ورديء وطفولي أيضاً. الآن - إن زرتم نابلس العتيقة، ذات القلب الحجري الشامخ كالطود، سترون في أزقتها حنفية ماء سبيل، أو لوحات رخام، او أي شيء تشكيلي يذكّرك: هنا سقط مقاتل آخر من مجموعة (فارس الليل) مثلاً.
موت هو الموت، أو ادفعوا الموت بالموت، او اطلبوا الموت توهب لكم الحياة. على أنصبة الجندي المجهول في غير دول، ينقشون، مثلاً، هذه العبارة: اسمك مجهول وفعلك خالد. في شوارع مدن هذه الضفة ينقشون الاسم، واسم الحرب، ويوم الولادة .. ويوم الشهادة. للشهادة الفلسطينية أيارها على مدار الأيام والسنوات. على النصب التذكاري لشهداء (يوم الأرض) في سخنين هذه العبارة: ماتوا لنحيا .. فهم أحياء.
حقاً، لا تعرف النفس أين تموت، ولكن نَفْس الفلسطيني تعرف لماذا تموت.. والقاتل يعرف لماذا يقتل، ولماذا يتحقق من القتل، ومن اختلاجة القتيل الأخيرة.
في الجو صفقة أُخرى لتبادل أحياء بأموات، او أموات بأحياء، أليس في أجواء صفقات التبادل من يذكّرنا ليذكّرهم: هاتوا أسماء شهداء (مقابر الأرقام)؟ لهم أياديهم وأسماؤهم.. فلماذا لهم أرقام على قبورهم؟!
تذكروا: اعترف رابين: لدينا اسم محفوظ لكل صاحب قبر - رقم. طالبوهم بالقائمة شرطاً من شروط الإنسانية .. او السلام.
حسن البطل