ذهبتُ إلى العراق، صيف 1972، كما ذهب الجنرال ديغول إلى سورية ولبنان محارباً حكومة فيشي الموالية للرايخ، قال: "
ذاهب إلى الشرق المعقّد بأفكار بسيطة".
اكتشفت، أول ما اكتشفت، أن العراق لا تشمله فكرة انطون سعادة الطوباوية عن "الهلال الخصيب".. ولاحقاً اكتشفت، عملياً،
أن بلاد الشام، أو سورية الكبرى، مشمولة بفكرة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي.
بأفكاري البسيطة وهي مزيج من الفلسطينية والسورية والعروبية، كتبت مقالة عن قرار حكومة العراق إخضاع استخراج
وتكرير وتصدير نفطه إلى نظام يسمى "المشاركة" أي أقل من "التأميم" وكتبتها في جريدة أسبوعية تسمى "المقاومة" وكانت
تصدر عن مكتب إعلام م.ت.ف، أو إذاعة الثورة من بغداد.
فوجئت في اليوم التالي، أن صحف العراق الرئيسية، وكانت ثلاث بما فيها "التآخي" الكردية، نشرت مقالتي، حرفياً، في
صفحاتها الأولى، بعد أن وزعتها وكالة الأنباء العراقية الرسمية (و.ا.ع)
لكن، بعد اتفاق آذار بين الحكومة والحركة الكردية عن حكم ذاتي للأكراد، كتبت مقالة ثانية نشرتها بكاملها "التآخي" ونشرتها
مجزوءة صحف النظام.
آنذاك، كان العراق في مرحلة تحولات وصعود "نائب الرئيس صدام حسين إلى منصب الرئيس، الذي تعهد "سيبني في
العراق دولة غير اعتيادية في العالم الثالث" وبأسلوب يذكّر، في مرحلة لاحقة، بأسلوب الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي قطف
"الرؤوس اليانعة".. ولكن بين العراق المستقر والمزدهر.
***
إذا أجملت تاريخ بلاد الحضارة والفنون والعلوم: سومر وآكاد، أو بلاد شريعة حمورابي، أو بلاد "أرض السواد" الخصبة
و"الرافدين" خلال الـ 60 سنة، منذ انقلاب عبد الكريم قاسم 1958؛ فسأقول: هذا بلد التخوم العربية الذي ينزف ولا يتوقف
عن النزيف، وهجرة خيرة عقوله وخبرائه إلى خارجه، ولا تهدأ حروبه الداخلية والإقليمية والعالمية.
الآن، يتحدثون عن "ربيع عربي" أمامه مهمة تاريخية، مديدة وعسيرة، لإعادة تشكيل دول هذا العالم العربي. هل البداية في "
ربيع تونس" حيث ثار الشعب ضد الفساد والاستبداد، أم البداية في سقوط بغداد تحت الاحتلال الأميركي بذريعة "زرع
الديمقراطية" وإسقاط الاستبداد!
تونس منسجمة، ومصر متآلفة بانسجام وطني وديني، وسورية مركبة.. ولكن العراق بالغ التعقيد: قومياً ودينياً وطوائفياً، ولم
يحل هذا التعقيد حكم قومي استبدادي يرفع شعار "شعب العراق بعربه وأكراده وأقلياته القومية والدينية المتآخية".
من زمان قال الشاعر: يقولون ليلى في العراق مريضة/ يا ليتني كنت الطبيب المداويا"، لكن العراق الآن يحتاج إلى "كونسلتو
أطباء" لكنهم مختلفون على علاجه وقتله معاً!
لا حكم الدولة المركزية نجح في استقرار العراق، ولا حكم الأقلية العربية السنية نجح، والآن لا ينجح حكم الأكثرية الشيعية،
ومن قبل لا يبدو أن حكم الدولة الفدرالية سينجح في هذا الصراع والفوضى الضاربة أطنابها. البلد يتفكّك وينهار دولة وشعباً.
بنى صدام في العراق ما اعتبر في الغرب "الجيش الرابع" في العالم.. وانهار هذا الجيش في حروبه مع إيران وغزوه
للكويت، وحرب التمرد الشيعي، والحروب العالمية. أي بلد يحارب كل هذه الحروب في فترة قصيرة! حتى أميركا لا تفعل مثل
هذه الحماقات!
كانوا يتحدثون عن تقسيم العراق ثلاثة عراقات : كردية، سنّية وشيعية، وأجروا انتخابات "ديمقراطية" تحت الاحتلال، وأخرى
أكثر "ديمقراطية" بعد الجلاء الأميركي .. ولكن؟
هذا البلد يسير نحو انهيار متسارع لكل مركبات وعناصر الدولة: الجيش، الحكومة المركزية، الحكم الفدرالي.. والشعب أولا،
وهو بلسان رئيس الحكومة ورئيس البرلمان يستنجد بحالة الطوارئ القصوى، وبالقبائل والعشائر، وبجيش البشمركة الكردي،
وبالجيران، وحتى بالولايات المتحدة، لتحميه من جناح "القاعدة" المسمى "داعش".
بعد أن حارب نفسه، ثم حارب الجارة فالجارتين، ثم حارب العالم، ها هو يستنجد بنفسه أو بقية نفسه، وبالجيران والعالم لإنقاذه
من فشله في إخضاع محافظة الأنبار الأكبر مساحة أو سقوط محافظة نينوى، وامتداد السقوط إلى محافظة صلاح الدين..
الموصل، بلد ثورة عبد الوهاب الشواف، وثالث مدن العراق، سقطت خلال ساعات.
لشاعرنا القومي عبارة رائعة: "لعلّ انهياراً يحمي انهياري من الانهيار الأخير".. فهل سيحمي الانهيار السوري المتدارك
الانهيار العراقي المتسارع؟ أم سيحميه تدخل الجارتين الإيرانية والتركية عن طريق اقتسام النفوذ فيه، أم تعود القوات
الأميركية إلى التدخل ضد "داعش" بواسطة حرب بالطائرات بلا طيار، أم أن روسيا المتورطة مع الغرب وأميركا في
اوكرانيا لديها فائض قوة للتدخل لدعم نظام كان نتيجة ورطة حروب صدام حسين، وحروب العالم ضد عراق صدام حسين.
العراق أنجد سورية في حرب اكتوبر 1973 ولا تستطيع سورية نجدته الآن.
المهم، أن أرض الرافدين، أو أرض السواد، أو بلاد سومر وآكاد وحمورابي، وهذا التخم العربي الشرقي تستمر في نزيف
خيرة أبنائها من 60 عاماً، وسورية تنزف، أيضاً، وليبيا واليمن والسودان، بينما تتعافى تونس ومصر. هذه هي الحمّى
الأصولية الإسلامية الظلامية، التي تلي الحمّى القومية العروبية. وبين هذه وتلك يختلط شروق الدولة القطرية الديمقراطية من
رحم الربيع العربي بغروب الدولة القطرية العربية في جوف الأصولية الظلامية!