حـسـن الـبـطـل
ربّ صدفة؛ والصدفة الجميلة أن بيتي (شقتي الجديدة) تتوسط مدرستين. من شرفة شرقية في الطابق الخامس أطلّ على مدرسة عزيز شاهين الحكومية الثانوية للبنات؛ ومن شرفة غربية أطلّ على مدرسة "الأونروا" لذكور رام الله الأساسية للبنين.
شرق وغرب. بنات وصبيان. طالبات مدرسة ثانوية حكومية؛ وتلاميذ مدرسة ابتدائية للأونروا.. وفي شوارع رام الله عادت الجعبة الثالثة والأهم، على مناكب وظهور التلاميذ والطلاب؛ ومعها عادت مواكبهم البهيجة في دخول المدرسة والخروج منها: زرافات ووحداناً أو ممسكين بيد أحد الوالدين؛ والزي المدرسي الموحد للمدارس الرسمية، وأزياء مختلفة للمدارس الخاصة لون الشوارع صباحاً وظهراً.
الجعبة الثالثة؟ ثلاثة أجيال تتنكبها: الجنود في حرب. المثقفون من أدباء وشعراء وصحافيين.. وأولاد المدارس: عدّة الحرب والموت، وعدّة الشغل والرزق، وعدة جيل المستقبل للبلاد والشعب!
في جيلي المدرسي، كانت الحقيبة في اليد، ومن جلد طبيعي أو صناعي، أو حتى من "تنك"، وفي أجيالهم صارت الجعبة "حديقة ملوّنة" برسوم وكتابات زاهية. في جيلي كان الزيّ المدرسي "مراييل" سوداء، وصارت مراييلهم ملوّنة مقلّمة بلونين أو أكثر، أو بمربعات ملوّنة وزاهية للبنات.
مدارس دول العالم رسمية وخاصة، والخاصة كانت داخلية للأثرياء أو خارجية للعموم.. لكن مدارسنا ثلاث: حكومية وخاصة.. ومدارس الوكالة الفريدة من وكالات U.N.
السنة الدراسية السابقة كانت مطولة في مدرسة البنات الحكومية الثانوية، لأن الامتحانات تلي اختتام العام الدراسي؛ وكانت مطولة في مدرسة البنين الأساسية للتعويض عن أيام إضراب مطلبي طويل لموظفي الوكالة. تتحلّق الطالبات ويتجمّعن أمام المدرسة قبل الامتحان، ويتحلّقن بعد الامتحان ويتفرّقن.
الحقائب على أرض ساحة المدرسة، والتلاميذ في حركة لا تهدأ تذكرك بتلمذتك قبل جرس بداية دخول الصفوف، وبعد انتهاء اليوم الدراسي يأتي بعض التلاميذ من ساعات العصر إلى ساعات المغرب المتأخّر ليلعبوا كرة قدم في ساحة المدرسة.
أرى رؤية العين ما يتحدثون عنه حول "تأنيث التعليم" فالمعلمات أكثر بكثير من المعلمين و"الآذن" رجل والإداري كذلك غالباً، وربما المدير. هكذا صار عندنا وهكذا صار في مدارس دول غيرنا.
700 ألف تلميذ وطالب إلى مدارس الضفة؛ و475 آخرون في غزة باشروا يومهم الدراسي الأول رمزياً في مدارس الوكالة، ريثما تضع هذه الحرب المجنونة أوزارها، فتفرغ المدارس من اللاجئين إليها والمحتمين بحرمتها المخروقة أحياناً بالقصف.
بماذا بدأنا توحيد شطري مشروع الدولة؟ بالبرلمان الموحد؟ أو بتوطين منهاج التعليم على مدى ست سنوات، مع قفزة درجتين كل سنة، أو بتوحيد القوانين السارية في الضفة وغزة في قانون فلسطيني، وهو عمل لم تكمله، لأن الانقسام والانقلاب أوقفه، وعطّل البرلمان، وكاد يعطل المنهاج المدرسي الموحّد.
مدارس غزة، بعد الحرب، أوحت لي بمدارس فلسطين بعد النكبة، فقد كان اللاجئون إلى غزة يطلبون "خيمة المدرسة" قبل خيمة البيت، ويعملون من "خشب السحاحير" الهش سبورة مدرسة الخيمة، ومن حجارة الكلس أصابع طباشير.. أو هكذا تلقّى جيل معين بسيسو دروسه في مدارس الوكالة كما كتب بقلمه. الوطن ضاع ومدرسته؛ والمدرسة طريق لإعادة بناء حياة الشعب ومستقبله.
لي اهتمام أكبر بمدرسة "الأونروا"، ومدرسة "الأونروا" في سورية أحسن حالاً من مدرسة الدولة، وقيل لي في البلاد إنها كذلك هنا. هل أن المعلمين ـ اللاجئين أكثر إخلاصاً في التدريس، أم أن رواتبهم أحسن (تعويض نهاية الخدمة في مدارس الوكالة، مقابل رواتب تقاعدية في مدارس الدولة). معلم الوكالة مظلوم.. ومعلم الدولة أكثر منه.
الطريف، في حقبة حكم البعث لسورية، أن النافذين في الحزب أو ضباط الجيش السوري كانوا يسعون، بالواسطة إلى مقعد لأولادهم في مدارس الوكالة، التي باشرت فتح مدارس مهنية لإعداد الطلاب إلى متطلبات سوق العمل.
ذكرتُ أن لدينا ثلاث مدارس: حكومية، وخاصة.. و"أونروا"، وفي مرحلة ما، وبلاد ما في مناف ما، كانت هناك مدرسة رابعة هي مدرسة منظمة التحرير، إما لأولاد الشهداء؛ وإما لأولاد موظفين في المنظمة والجاليات الفلسطينية في دول خارج نطاق عمل وكالة "الأونروا"، كما في دول الخليج، وبخاصة في الكويت قبل الاحتلال العراقي العابر.
نحتاج مدرسة جديدة كل أسبوع، أو نحتاج غرفا صفية جديدة في المدارس القديمة، أو نحتاج مختبرات أكثر تقدماً في المدارس الجديدة والقديمة، أو نحتاج تطويرا مستمرا للمناهج والكتب المدرسية.
.. لكن أشدّ ما نحتاجه هو أن نصل إلى وضع يستطيع فيه المعلم أن يعيش حياة لائقة من راتبه.