حسن البطل
صورتان عيانيتان. معلومتان من تاريخ النقب ومن مقدمة ابن خلدون.. وهكذا، في ما يشبه المربّع العربي أضع مشكلة بدو شرقي القدس مع مخططات إسرائيل!
في الصورة الأولى، على طريق قصير يصل رام الله بشارع القدس ـ أريحا رأيت، ذات خريف، معزات البدو كأنها علامات السلّم الموسيقي على مفتاح صول، أو على طبقات أفقية من صخر أجرد متدرّج.
في الصورة الثانية، على طريق طويل يصل العاصمة عمّان بخرائب البتراء العجيبة لم أرَ علامات حياة بدوية. لا خيام من الشعر، ولا "عبايات" البدو على أجسام الرجال والنساء.. ولا حتى "بيوت الشَعْر"، التي نراها على شاشة تلفزيون الأردن.
رأيتُ بدوياً كأنه راعي بقر، يرتدي سروال الجينز ويعتمر قبعة قش مثل راعي البقر. رأيت نساء بدويات يرتدين "الزيّ الشرعي الإسلامي".. ولم يتوقف الباص السياحي عند "استراحة بدوية" لنشرب فنجان قهوة مطروقة بهذا "المهباج"!
من تاريخ بدو النقب، وبالذات قبيلة الجهالين. أن لعنة أ. ب. ج عمرها من عمر النكبة. قامت إسرائيل بترحيل عشائر المنطقة (ج) في النقب إلى الضفة والأردن، ونقلت إليها عشائر المنطقة (ب).. وأمّا أرض عشائر المنطقة (أ) فصادرتها إسرائيل.
في "مقدمة" ابن خلدون تمييز بين "الأعراب" من البدو، والعرب من الحضر.. وإغارات الأوّلين على الأخيرين. إنه يذمّ الأعراب الذين يهدمون بيتاً للحصول على عامود السقف العرضاني لإقامته في خيمتهم، أو تكسيره واستخدامه حطباً للطهو وإعداد القهوة!
مشهد "بيت" البدوي في طريق رام الله إلى شارع القدس ـ أريحا، هو مشهد "بيت" البدوي في الطريق من عمّان إلى البتراء: قماش من خيوط اللّدائن (البلاستيك) المشبع بطلاء أسود عازل للمطر، لعلّه "القار"، وأحياناً جدران من الصفيح.
إنهم يرحلون ويتنقلون طلباً لـ "الكلأ" ورحلاتهم الكبرى غير رحلاتهم الصغرى، الكبرى موسمية صيفاً وشتاء، وكانت عابرة للحدود، الصغرى هي "سرحة" مع القطعان صبحاً والعودة إلى الخيمة مساءً.
في بلاد البدو الأصلية صرتم ترون أعلى برج في العالم إلى جانب متاحف عن التراث البدوي، وفي الطريق الفسيحة سيارات الدفع الرباعي.
استقرّ البدو و"تحضّروا" و"تمدّنوا" واعتمروا حطّات "غترات" رأس من مصانع "بورجيه" السويسرية الأوروبية، والعباءات صارت مذهّبة (في طرفها سبحة).. وإلى هذا صارت "بيوت الشَعْر" في القصيدة وعلى شاشة الفضائيات.. وتهجّنت بيوتهم إلى سقوف من البلاستيك المشبع بالقطران الأسود.
مع ذلك، هاكم صورة عن علاقة البدوي بأرضه: في 29 أيار هدمت سلطات الاحتلال قرية "العراقيب" البدوية للمرة 69، وأعاد بدوها إقامتها للمرة 68 (والحساب مفتوح)، إنه هدف خطة "برافر" لتركيز البدو، ومصادرة أراضيهم.
"عرب الجهالين" طُردوا من النقب عام النكبة، بعضهم إلى الأردن والآخر إلى الضفة.. وإلى ضواحي القدس الشرقية، وأقيمت مستوطنة "معاليه أدوميم" مكان مضارب البدو في جبل "أبو غنيم".. والآن سيطردونهم من أبو ديس وجوار مستوطنة "معاليه أدوميم" إلى مشاريع إسكان في أريحا ومنطقتها، والهدف؟ السيطرة على الأرض، وجعل طريق القدس ـ أريحا خالياً من البدو وقطعانهم وبيوتهم "المكركبة".
كان أولادهم يسيرون على أقدامهم 15 – 18كم، أو يستقلون سيارات عابرة من المدرسة في أريحا إلى مضاربهم قرب "معاليه أدوميم". الممنوعون من بناء بيوت وجدوا في إقامة مدرسة من إطارات السيارات المستعملة والطين حلاً لمشكلة تدريس الأولاد، ومن قبل سقوف عجيبة سوداء من القماش الصناعي المطلي بالقار.
لا يريدون الرحيل، ولا يريدون "تركيزهم"، ربما أن مشهد بيت البدوي قرب بيوت مستوطنة ذات سقوف قرميدية يشهد للسائح والمواطن على عملية قلب المشهد الطبيعي لصالح الاستيطان.
إسرائيل تفاخر بأوتوستراد القدس ـ أريحا ـ البحر الميت، لكن هذا أقيم بفضل 96 مليون دولار من المال الأميركي نتيجة مفاوضات "واي ريفر" كجزء من "طريق السلام" (ديرخ هاشالوم) من حيفا إلى عمّان.
إسرائيل تريد ربط "معاليه أدوميم" بمستوطنات القدس الشرقية، وأيضاً تنفيذ مشروع E1 وكذلك زرع مستوطنات تتحكم بالطريق من "معاليه أدوميم" إلى البحر الميت.. وربما لاحقاً إغلاق أوتوستراد القدس ـ أريحا أمام حركة السير الفلسطينية، وإجبارها على اعتماد "طريق المعرّجات" للوصول إلى أريحا.
تلميذة طفلة في مدرسة إطارات السيارات تقول: بدّي أصير محامية أدافع عن الناس. أخرى تقول: بدّي أصير مُعلّمة مَدرسة، وكانت تمشي 18 كم من أريحا حيث المدرسة إلى بيتها في ضواحي "معاليه أدوميم".
القصة متوالدة ومفتوحة منذ عام النكبة، بل منذ إقامة أول مستوطنة يهودية في فلسطين، واختصرها موشي دايان بقوله 1956: "هنا كان استيطان عربي وصار استيطان يهودي. نحن نحوّل بلداً عربياً إلى بلد يهودي" لا أحد يغنّي أنشودة ميسون زوجة معاوية: "لَبَيْت تخفق الأرياح فيه/ أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيفِ"
"ولبس عباءةٍ وتقرَ عيني/ أحبّ إليَّ من لبسِ الشفوف".