توقيت القاهرة المحلي 07:53:45 آخر تحديث
  مصر اليوم -

.. هكذا، اجتزت «عام أبي»

  مصر اليوم -

 هكذا، اجتزت «عام أبي»

حسن البطل

انبطحت أرضاً، كما يبطحون من تضربه نوبة صرع فجائية (تقدّم العلاج الوقائي، فلم نعد نرى المصروع على قارعة الشوارع.. كأنه يختنق، أرضاً، كما يختنق المشنوق مدندلاً بحبل).
بطحتني السيارة أرضاً: الجذع على الاسفلت، ونصف الجسد الآخر على التراب. أخذ جسدي وضع الذي ينشلونه من الغرق، أو دخان الحريق.

لم يكن هناك ماء ولا دخان، كانت هناك رائحة الغبار. رائحة أشبه ببهار الكاري. لماذا الكاري أصفر؟ لماذا العصفر (الكركم) اصفر. لماذا راية الموت والحرب صفراء؟
كنت في الخامسة عشرة. كان الحانوتي يغسل جسد عمي عبد اللطيف. لم أر، من قبل، جسدا تاما وهامداً.. يغسلونه ويحضرونه للدفن.

من يومها "انصرعت" كما تقول أمي.. أو اختبلت. علامة اختبال الولد الثرثار ان يلوذ بالصمت وبالحزن. يغسلون الموتى؟ نعم. لكن ما هذا "البهار الاصفر" المنثور على قطن ابيض؟ وما هذه العملية حيث سدّ الحانوتي منافذ جثمان عمي كلها: الاخبثين والاطيبين. الميت لا يغرق ولا يختنق.. لكنني شعرت بالاختناق.
الكاري والعصفر للتطييب، وشيء مثل الكاري والعصفر من مستلزمات التكفين.

كنت طريحاً، ولغبار الصدمة رائحة الكاري.. ثم رائحة احتكاك عجلات السيارة باسفلت الشارع، الاشبه بالبهار الاسود المحروق.
لماذا الكركم هو عصف/فر، لأن الاصفر يعصف بالابيض الذي هو لون الارز؟ لماذا اسم الفندق الجزائري "مازفران" لأنه غير مضمخ بماء الزعفران.
الغبار ينجلي أسرع من الدخان. لكن رائحة الكاري ورائحة البهار الاسود تدوم تحت اللسان وفي الحلق، مثل الضباب في الوادي الجبلي شتاء.

انبطحت (بطحتني ضربة السيارة الغادرة من الخلف، كما ينبطح المصروع).. هل هذه هي النهاية؟ نهايتي قبل اسبوع من يوم ميلادي الـ 56؟
لم يكن على الاسفلت الاسود، حيث جذعي، لون دمي الاحمر. هذه خبطة اذاً، وليست دهساً. كيف اتنفس لو حطمت عجلات السيارة قفصي الصدري؟ مثل بيضة مفقوسة.

يوم ميلادي هو، مصادفة، يوم سقوط الباستيل. ها أنا اسقط جريحا او قتيلا. ومنذ عشرين عاما، قبل الخبطة التي بطحتني كما كانوا يبطحون المصروع، كنت اخشى الموت في العام (2000).. وكان خوفي خوفاً خاصاً بي.
اجتزت ستة اشهر واسبوعاً واحداً من العام 2000، وانا اخشى ان يكون عام الالفية هذه هو عام نهايتي كما كان "عام ابي". انا في السادسة والخمسين.. الا اسبوعا واحداً.

مات أبي في الـ 56 من عمره بجلطة صاعقة ضربت دماغه وكنت غلاماً. منذ سنوات وأنا اراقب ضغط دمي. الصحافة ترفع الضغط؛ وهذا قد يكون مرضاً وراثياً، وانا ابن أبي، ومريض بالكتابة الصحافية.
ضربتني أزمتان قلبيتان، بفارق ربع قرن، وهذا يعني ان الازمة عابرة، ونتيجة ارهاق، وليست مؤشراً على آفة قلبية.

في آخر "شيك – أب" قبل الخبطة قال الطبيب: أنت ولد. ضغطك 70 / 130، ثلاثي الكولسترول 194 (الحد الادنى 150).. فرحت، سأجتاز "عام الأب" سأجتاز عام الالفية. سأكتب الف عمود يومي آخر. سأصوم، من مغرب الشمس، عن السكائر، التي التهمها مع فنجان الصباح كما تلتهمني كلمات العمود اليومي تلو العمود. المهم ان لا تسرف في التدخين قبل النوم؛ وان تسرف في خمسة مقادير يومية من الفاكهة والخضراوات.
للمثقف السياسي ثقافة طبية. لماذا لا؟ وللمطروح أرضاً، بعد خبطة سيارة، ان ينظر الى الاسفلت ليتأكد انه غير ملون بدمه الاحمر.

.. ثم، ان يأمر عقله عصب طرف بنانه.. تتحرك السبابة. ان يأمر، تالياً، عصب اصبع قدمه. يئن المصاب، وكنت اطلق انيناً، لكنني كنت واعياً تماماً للثقافة الطبية. طلبت من الناس، الذين فزعوا إليّ، لحملي في السيارة التي خبطتني، ان ينتظروا.. حتى أتأكد ان عجلات السيارة التي لم تدهسني وتحطم اضلاع قفصي الصدري، لم تقصم ظهري فتقعدني بالشلل. من الذي لا يخاف - بعد العمى - من الشلل النصفي: ان تجرجر نفسك الى مقعد المرحاض.. وان لا تنحني برشاقة لقطف زهرة برية. ان لا تمد قدميك على الطاولة مستمتعا بفيلم غرامي.. وأن تمارس الواجب الرجولي في وضع انثوي؟!

عندما وقفت، بمساعدة الناس (سأعرف لاحقاً انهم من شباب القرية، لأنهم سيذكّرونني بذلك) طلبت منهم الذهاب بي فوراً الى المستشفى. من يدري؟ هناك خطر النزيف الداخلي البطيء. لم أعد شاباً في "عام ابي".. لا عظامي، ولا بالأحرى احشائي.
مثل زحف النمل الدؤوب سيأتي الألم القارس، بعد ان "تبرد الضربة السخنة ". النمل لا يزحف بالطبع، نراه هكذا.
.. وهكذا قد نشم الغبار بهاراً، وقد يذكرنا البهار الاصفر بمواد "يتبّلون" بها جسد الميت: الاخبثين والاطيبين. نحن هكذا، في لحظة الصدمة، نخلط احاسيس اللحظة بهواجس عميقة تقود الى زمن الطفولة.

لا يغيب خطر النزيف الداخلي قبل 36 ساعة، قضيتها تحت رقابة صديق، بعد العودة من "الطوارئ".
عندما يتبدد، تحت صورة الاشعة، خطر انكسار في العظام، يبدأ الوجع الحقيقي.. الناجم عن "التمزق العضلي". شهران.. ثلاثة، حتى مطلع العام الاول من الالفية الجديدة.
كرهت رائحة الكاري والكركم عاماً آخر. عاد الاصدقاء لمناكفاتهم القديمة: "هل تصبغ شعرك". "مات أبي اسود الشعر". يجتاز الصينيون "عام التنين" و"عام الدب".. وأنا اجتزت "عام أبي".

نقلاً عن "الأيام"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 هكذا، اجتزت «عام أبي»  هكذا، اجتزت «عام أبي»



GMT 07:13 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

علاقات بشار التي قضت عليه

GMT 07:12 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

«في قبضة الماضي»

GMT 07:11 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا!

GMT 07:10 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

«بيرل هاربر» التي لا تغيب

GMT 07:09 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

من باب المندب للسويس والعكس صحيح

GMT 07:07 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

كرد سوريا وشيعة لبنان

GMT 07:06 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

الخلط الإسرائيلي بين موازين القوى والحقائق

GMT 07:05 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

«كايسيد»... ومواجهة وباء الكراهية

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 19:21 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

برشلونة يحتفل بذكرى تتويج ميسي بالكرة الذهبية عام 2010

GMT 11:32 2020 الجمعة ,25 كانون الأول / ديسمبر

دبي تهدي كريستيانو رونالدو رقم سيارة مميز

GMT 04:41 2020 الخميس ,24 كانون الأول / ديسمبر

وزارة الصحة الروسية تسمح بتغيير نظام اختبار لقاح "Sputnik V"

GMT 21:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

أول تعليق من نيمار بعد قرعة دوري أبطال أوروبا

GMT 06:29 2020 السبت ,17 تشرين الأول / أكتوبر

حمادة هلال يهنئ مصطفي قمر علي افتتاح مطعمه الجديد

GMT 07:23 2020 الجمعة ,16 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الجبس في مصر اليوم الجمعة 16 تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon