كل صراع له قواعد وأسباب وأهداف ومستويات فى التصعيد.
الفهم الصحيح هو المدخل الوحيد للتعامل مع أى أزمة سواء كانت فى مرحلة التشكيل أو التطور أو التصعيد أو مرحلة إدارة الأضرار أو التسوية.
وفى رأيى المتواضع أن الأزمة الليبية والحرب الطاحنة التى تدور الآن تعكسان تركيبة شديدة التعقيد، متعددة الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، تجعل الحلول الحاسمة فيها مؤجلة وشبه مستحيلة سواء بالتراضى أو بالقتال، بالتفاوض أو بالحسم العسكرى.
حينما نقول «ليبيا» فعن ماذا نتكلم بالضبط؟
نحن نتحدث عن بلد تمتد مساحته إلى مليون وسبعمائة وخمسة وتسعين كيلومتراً ويأتى فى الترتيب الـ17 من ناحية المساحة عالمياً.
نحن نتحدث عن بلد تعداد سكانه 6٫5 مليون نسمة كان ناتجه المحلى حتى عام 2010 (92 مليار دولار) وتبلغ احتياطياته النفطية 41 مليار برميل.
نحن نتكلم عن دولة لديها تاريخ قديم يبدأ منذ 6800 عام قبل الميلاد على أقل تقدير.
نحن نتكلم عن تراكم حضارى بدأ من الحضارة الفينيقية إلى الرومانية إلى دولة الأدارسة العربية، إلى الاحتلال الإيطالى.
نحن نتحدث عن مَلكية شديدة السماحة لديها نظام توافقى رضائى بين القبائل والمناطق، يقوم على الاقتصاد الحر، تحولت إلى نظام ثورى عروبى متشدد مضطرب فى ثقافته السياسية متورط فى حركة العالم أضاع أكثر من 450 مليار دولار على مغامرات ومشروعات فاشلة.
«النفط، القبيلة، الموقع».. ذلك الثالوث الذى يجعل التجربة الليبية ذات خصوصية معقدة.
ويشكل الساحل الليبى، وهو الأطول عربياً على المتوسط، تاريخياً، مطمعاً ونقطة جذب استراتيجية.
وتبلغ الكثافة السكانية فى هذا البلد الممتد نسبة 50 نسمة لكل كيلومتر مربع فى المنطقتين الشمالية من طرابلس وبرقة، وتزداد انخفاضاً بشكل لافت بواقع شخص واحد لكل كيلومتر فى الأطراف.
ويعيش 90٪ من السكان فى 10٪ من المساحة الكلية للبلاد ويتركز معظمهم فى الأماكن الحضرية والسواحل.
من هنا تأتى أهمية بنغازى والزاوية وطرابلس وهذا يبرر المعارك الطاحنة التى دارت وما زالت لتأكيد السيطرة عليها.
تركيبة السكان تؤكد أن 30٪ منهم تحت سن الـ15 عاماً، مما يؤشر إلى أن الجيل الذى تابع الحرب الأهلية منذ 7 سنوات دخل الصراع وهو محدود الوعى السياسى، قليل التجربة الحياتية.
وتتكون أعراق ليبيا من عرب وهم أحفاد الأدارسة، وبربر وينقسمون إلى فرعين فى شرق وغرب البلاد، «والتبوهيا» وهم سكان واحات الجنوب الليبى، و«الكراغلة» وهم ينقسمون إلى «تركمان، أكراد، شركس، ألبان».
وتوجد أيضاً أقلية من أصول إيطالية بقيت ولم ترحل مع نهاية الاحتلال فى طرابلس وبنغازى.
بعد ما سبق نأتى إلى «التفسير النفطى» لما يحدث الآن فى ليبيا، حيث الصراع من الباطن تحركه مصالح شركات النفط صاحبة الامتياز فى البلاد.
والصراع الخفى الذى بدأ يطفو على السطح هو صراع المصالح الإيطالية- الفرنسية، وتجلى ذلك فى صراع شركتى «إينى» الإيطالية و«توتال» الفرنسية، وكل ما تمثله كل شركة من مصالح داخل بلادها وتأثيراتها على السياسة الخارجية.
تقف «إينى» مع حكومة الوفاق التى يرأسها السراج من أجل مناطق امتيازاتها ووجود الميناء فى طرابلس، وسيطرة حكومة الوفاق على البنك المركزى.
وتؤيد شركة «توتال» الفرنسية الجيش الوطنى برئاسة المشير حفتر بحكم مناطق امتيازاتها، وبسبب علاقة مبيعات السلاح الفرنسية والتعاون الأمنى مع الجيش الوطنى.
ولا يخفى عن البعض أن هناك شركتين أمريكيتين حصلتا على امتيازات فى ليبيا فى بداية المصالحة مع واشنطن وهما «إيكسون موبيل» و«اكستندال أويل».
تزداد المسألة تشابكاً وتعقيداً إذا عرفنا مصالح الدول الجارة لليبيا وهى: الجزائر وتونس وتشاد والنيجر ودول السواحل المتأثرة بالهجرة غير المشروعة بحرياً مثل إسبانيا واليونان ومالطة وإيطاليا وفرنسا وتركيا وقبرص.
ويأتى السبب الأكثر صعوبة وتعقيداً، وهو الصراع الإقليمى فى المنطقة بين محور «قطر، تركيا، إيران» الداعم لجماعة الإخوان والميليشيات الرئيسية المسلحة بدءاً من داعش، والقاعدة إلى الكتيبة الليبية المقاتلة من ناحية، وبين جيش حفتر المدعوم من مصر والإمارات وأخيراً السعودية الذين يحاربون الإرهاب التكفيرى هناك.
أزيدكم من القصيدة بيتاً أخيراً: يوجد فى ليبيا 88 جنسية مقاتلة، آخرها وجود طيارين مرتزقة يعملون مع «السراج»، وهؤلاء من الإكوادور!!