متى نتوقف عن شخصنة كل الأمور والأحداث والمواقف والأشخاص فى تقييمنا السياسى؟
متى يصبح الصواب صواباً، والخطأ خطأً بصرف النظر سواء كان فاعله هو أحب الناس إلى قلوبنا أو أكثر الناس عداوة لنا؟
متى نفصل بين «الفعل» و«الفاعل» و«المفعول به»؟
متى نتجرد ونحن نُقيّم حاكماً، أو حزباً، أو سياسة، ونخلّص تقييمنا من عاطفتنا ومصالحنا وأهوائنا؟
هذه القضية ليست مجرد مسألة فكرية نظرية، لكنها مسألة جوهرية، وفى رأيى أنها الأكثر تدميراً للعقل السياسى العربى اليوم.
بعقولنا المتحيزة، الثأرية، حوّلنا الثورات إلى انقلابات، والانقلابات إلى ثورات، وجعلنا من القتلة شهداء، ومن المستبدين أبطالاً، ومن الذين يبنون المجتمعات بعرقهم ومالهم متوحشين سارقين، وحوّلنا الأبطال إلى خونة، والجهلاء إلى مفكرين، وتجار المخدرات وكبار غاسلى الأموال إلى رجال أعمال.
وتجرأنا على أصحاب العلم والعلماء، وشككنا فى الكتب المقدسة وصحيح الأحاديث النبوية، ووصل بنا الأمر إلى إنكار ألوهية الواحد القهار جل جلاله سبحانه.
نحن نعيش عصر العقل المحتل، والعقل المحتل هو المقدمة الإلزامية للأرض المحتلة!
يتم غزو العقول قبل غزو الأراضى.
المسلسلات التركية غزت سوريا والعراق قبل أن تغزو كردستان العراق وإدلب سوريا.
والثقافة الشعبية الأمريكية غزت آسيا قبل أن تتمكن من مفاصل اقتصاد جنوب شرق آسيا.
وروسيا سيطرت على دول الاتحاد السوفيتى القديم باللغة والأفكار والإعلام وصناعة الأفلام والموسيقى.
قبل أن نتحدث عن المصنع والمدفع والصاروخ والغذاء، يجب أن نفكر فى تنمية العقول والنفوس والثقافة الوطنية.
أذكر أننى سألت أستاذى الدكتور زكى نجيب محمود، صاحب أكثر من 80 كتاباً فى علم المنطق: «متى أكون موضوعياً ومتى أكون متخلفاً؟»، قال: الإجابة بسيطة جداً يا ولدى: حينما تفصل الشخص عن الموضوع تصبح موضوعياً، وحينما تفعل العكس تصبح متخلفاً».
ببساطة يريد هذا العالم العظيم أن يقول لى: «القدرة على التجرد فى تقييم الأشياء والحكم على الأمور وتحليل السياسات تحدث فيما ترى الخطأ فى من تحب وتعشق وتؤيد، وأن ترى -فى الوقت ذاته- الصواب فى أكبر أعدائك».
أحياناً نتعامل مثل تعامل قريش مع أصنامهم الذين كانوا يعبدونها من دون الله، فإذا ما احتاجوا أن يمارسوا الخطيئة دعوها، وإذا جاعوا أكلوها، حينما تكون مصنوعة من التمر!
وأحياناً نكون من أشد الناس ظلماً وإجحافاً عندما نشيطن أعداءنا ولا نرى فيهم سوى الخطأ والخطيئة الدائمة.
وأحياناً ثالثة نلعن من كنا نقدسه، ونعود ونقدس من كنا نلعنه!
يقول المفكر الكبير محمد عابد الجابرى فى مسألة تكوين العقل العربى: «نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت ومتخشب فى كياننا العقلى وإرثنا الثقافى».
اختصرنا «الجهاد» على أنه القتال، بينما هناك عشرات الدروب والأشكال للجهاد.
«الجهاد» فى اللغة هو «بذل الجهد»، وأكثر ما يجب أن نمارس فيه الجهاد هو «جهاد الاجتهاد».
العقل المتحجر يؤدى إلى تداعى الأمم، وتحجر النمو، وتجمد الإصلاح.
تأملوا كل الدول التى تنهار من حولنا؛ اليمن، العراق، سوريا، ليبيا، مرت كلها بفترات تم فيها تعطيل الاجتهاد، وتأميم العقول، وفرض الحراسة على التفكير، واعتقال الإبداع!
هناك ارتباط شرطى كامل بين أزمة العقل وأزمة الحكم، وبين أزمة الحكم وأزمة الأمن القومى، يعيش العالم العربى فى قاع مؤشرات التنمية البشرية فى العالم.
ففى العام 2013، أى منذ 7 سنوات، جاء فى تقرير الأمم المتحدة أن 3 دول نامية رائدة هى: «البرازيل، والصين، والهند» سيتجاوز ناتجها الاقتصادى بعد عشر سنوات إجمالى إنتاج كندا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة!
نحن أكثر دول مصدرة للحروب الأهلية، والقتلى والضحايا من المدنيين، وأكثر المناطق فى العالم التى توجد فيها ألغام أرضية، وأكبر عدد من النازحين واللاجئين.
نحن أكبر مشترٍ للسلاح، وأقل الدول إنتاجاً وإصداراً للكتب والأبحاث العلمية وتأسيساً لمراكز الدراسات.
ذلك كله لأننا ببساطة نضع مائة كمامة على عقولنا.
العقل العربى يستخدم منذ أكثر من مائة عام «كمامات حاجبة للتفكير»!
«كمامة» تمنع الإنسان من فهم صحيح الدين وقيمة التسامح الدينى، واحترام وجود الآخر.
«كمامة» أخرى ترى فى الثروة عورة، وأن الرأسماليين إخوان الشياطين، وتساعد على خنق المبادرة الفردية.
وكمامة ثالثة تحتقر الفقراء، وتتوحش فى نهب البسطاء، وتهميش غير القادرين، وتتهرب من المسئولية الاجتماعية.
وكمامة سياسية تعشق السلطة وتدمن الاستبداد وتستحل المال العام.
وكمامة اجتماعية تهين المرأة، وتمارس التنمر، وتفرّق بين الطبقة والعرق والدين والمذهب والطائفة والعائلة!
إن فيروس الكورونا هو خطر عظيم، ولكن فيروس ذلك التخلف الفكرى الذى نحياه هو أشد خطورة وأكثر تهديداً فى حاضرنا ومستقبلنا.
ذات يوم سوف يُكتَشف مصل ودواء للكورونا، أما تخلّف الأفكار الذى يؤدى إلى انهيار الأمم وسقوط الحضارات فهو داء يحتاج إلى بذل أكبر الجهود حتى نجد له دواء.
الكمامة قد تقى من الكورونا، ولكن كمامات العقل التى تحجب عنه نور العقل، واستنارة الأفكار، والدافع إلى الإصلاح، والسعى إلى النهضة الشاملة، هى الخطر العظيم.
ضعوا كمامات الأنف والفم، وانزعوا كمامات العقل.