كيف تتفاوض إثيوبيا مع مصر والسودان؟ وأى أسلوب من أساليب التفاوض تلجأ إليه؟
هذه محاولة جادة للفهم والدراسة للإجابة عن تساؤلات كثيرة.
فهل هناك جدوى حقيقية فى التفاوض مع إثيوبيا؟ وأى أسلوب يمكن أن يتم التعامل به معها؟
سؤال يطرح نفسه بقوة -الآن- بعد استقراء علمى لما يمكن تسميته بـ«أسلوب وتكتيك التفاوض على الطريقة الإثيوبية» فى ملف مياه النيل طوال 9 سنوات مضت.
وما نسعى إليه من هذا التحليل، هو محاولة جادة لفهم كيف يفكر المفاوض الإثيوبى بعيداً عن أى مواقف أو مصالح، هى -بالقطع- تقف فى خندق المصالح المضادة له بسبب الخلاف الحقيقى فى المنهج والنوايا والمصالح والأهداف المتناقضة بين الطرفين، الإثيوبى من ناحية، والمصرى والسودانى من ناحية أخرى.
وبالتأكيد، فإن أى عاقل، ومخلص، لا يتمنى للمفاوضات الحالية بين الأطراف الثلاثة، سوى حل عادل ومُرضٍ يحقق مصالح الأطراف من خلال تسوية ملزمة شفافة ذات ضمانات قانونية ودولية تنهى أى احتمالات للصراع أو التصعيد بأى شكل يتعدى أسلوب التفاوض.
هنا نعود إلى مناقشة أسلوب التفاوض على الطريقة الإثيوبية.
فى البدء نسأل بشكل محايد: ما التفاوض بشكل علمى؟
التفاوض هو وسيلة يلجأ إليها طرفان أو أكثر حول قضية من القضايا يتم من خلالها تبادل وعرض وجهات النظر بهدف تقريبها مع محاولة كل طرف الحفاظ على مصالحه، ولا بد لكل عملية تفاوض أن يكون لها هدف أساسى يتم على أساسه قياس مدى تقدم أو تأخر العملية التفاوضية.
ويسخر الكاتب «برنارد شو» من عملية التفاوض بقوله: «إنه فن تقسيم الكعكة بطريقة يتصرف بعدها كل الحضور معتقداً أنه حصل على أكبر جزء منها».
مرة أخرى، نسأل: ما شروط أى تفاوض بشكل علمى؟
1- أن تكون هناك رغبة للأطراف فى التفاوض.
2- أن يكون هناك موضوع أو موضوعات محددة متفق عليها كموضوع للتفاوض.
3- أن يكون هناك اتفاق واضح على الأطراف المشاركة.
4- أن يكون هناك هدف محدد للتفاوض.
5- أن يكون هناك توقيت أو مدى زمنى لسير المفاوضات.
6- أن يتفق فى النهاية على قاعدة بيانات نهائية تصبح بعد النقاش والجدل وتبادل الوثائق، هى المرجعية لكل الأطراف، مثل (خرائط - إحصاءات - اتفاقات - معاهدات سابقة).
7- أن تكون المفاوضات ملتزمة بالقوانين الدولية والمعاهدات الدولية المستقرة.
8- أن يكون هناك إطار قانونى واضح وصريح يحدد التزامات كل طرف.
9- أن يكون الاتفاق ملزماً لجميع الأطراف.
10- أن تكون هناك آلية لفض المنازعات بشكل واضح.
بعد ما سبق، هل يمكن القول إن إثيوبيا التزمت بهذه القواعد فى أسلوب تفاوضها؟
المراقب المحايد، يمكن أن يُجمل استراتيجيات التفاوض المتعارف عليها فى 3 استراتيجيات يمكن تحديدها على النحو التالى:
1- استراتيجية المصلحة المشتركة: وهى تقوم على منهج القبول المسبق باللجوء بروح وعقل إيجابيين للوصول لحل المسألة موضوع الخلاف.
2- استراتيجية تطوير التعاون الحالى: وهى تقوم على تطوير وضع إيجابى حالى يسعى الطرفان إلى دفعه إلى مرحلة أكثر إيجابية وتعظيم للمصالح المشتركة.
3- استراتيجية الصراع: وهى منهج يقوم على استخدام قوة الضغط بكافة الوسائل لإرغام الطرف الآخر على قبول الأمر الواقع دون تقديم أى تنازلات.
القراءة العلمية المحايدة لأسلوب التفاوض الإثيوبى بالذات فى فترة حكم رئيس الوزراء آبى أحمد على منذ عام 2018 يمكن أن تؤشر أن المفاوض الإثيوبى استخدم «استراتيجية الصراع» فى التفاوض.
استراتيجية الصراع، التى قامت على مبادئ مجحفة:
1- رفض مبدأ التفاوض فى البداية.
2- إطالة الوقت والمماطلة.
3- إطالة زمن الردود والاستجابة.
4- تعمد إجهاد الطرف الآخر.
5- الوصول بالمفاوضات لحافة الهاوية عدة مرات.
6- الضغط النفسى والإعلامى.
7- لعب دور الضحية خارجياً ودور البطولة داخلياً.
لماذا لجأ آبى أحمد إلى هذه الاستراتيجية القائمة على منهج الصراع؟
يمكن تفسير ذلك للأسباب التالية:
أولاً: أسباب داخلية:
يقود آبى أحمد ائتلافاً سياسياً صعده إلى الحكم بعد استقالة سلفه هايلى ماريام ديسالين بعد 3 سنوات من الاحتجاجات والفوضى الداخلية.
وفى موازين القوى الداخلية فى إثيوبيا، كان من المتعارف عليه تاريخياً: أن زعيم الجبهة الثورية الشعبية الإثيوبية هو رئيس الوزراء المقبل.
هذه الجبهة مكونة من حزب أورومو (حزب آبى) وحزب أمهرة، وحزب جبهة شعوب جنوب إثيوبيا، وجبهة شعوب تيجراى التى يمكن القول إنها منذ ذلك التاريخ، كانت مصدر الخلاف مع حكم «آبى».
ويمكن رصد حركة تجراى الغاضبة سياسياً والمتحركة فعلياً أنها أصبحت تشكل معارضة شعبية تصل إلى حد الصدام الشعبى وتنذر بمصادمات دموية تهدد الاستقرار السياسى وتهدد مستقبل الائتلاف الحاكم، وتهدد مكانة «آبى أحمد» شخصياً كرئيس وزراء وكزعيم سياسى.
لذلك كان سلاح «آبى» الأكبر والأساسى فى مجابهة هذا الصراع الداخلى هو استخدام مشروع سد النهضة على أنه المشروع القومى العملاق الإنقاذى لكل تحديات البلاد.
ثانياً: أسلوب «آبى أحمد» وسياساته:
آبى أحمد ضابط أمن، خدم فى جهاز الاستخبارات الإثيوبية، وعمل فى مجال الأمن السيبرانى، حصل على الماجيستير والدكتوراه من جامعات إثيوبيا يتعلق مضمونها «بالتركيبة العرفية الداخلية للمجتمع الإثيوبى».
يتقن آبى أحمد اللهجات: «الأرومو» «العرق الذى ينتمى له»، والأمهرية، التيجرية «المعارضة له»، واللغة الإنجليزية.
نشأته بها مزيج من الإسلام والمسيحية، حيث تزوج والده من 4 نساء، وكانت والدته مسيحية بروتستانتية، وهى التى عمّدته على المسيحية وهو يعرف بأنه مسيحى متدين يتبع المذهب البروتستانتى المنتسب للكنيسة الخمسينية الإنجيلية.
يوصف بأنه «شعبوى ليبرالى» ذو ميول عرقية، ووصف من معارضيه بأنه: «شعبوى استبدادى ينحاز إلى جماعته العرقية، وهو بذلك لا يمثل كل الأمة الإثيوبية» كما جاء فى وصف أحد أقطاب المعارضة له فى جريدة الفايننشيال تايمز (مارس 2019).
ثالثاً: صراعاته الداخلية:
تحت دعوى الإصلاح ومحاربة الفساد، تم إقصاء 160 جنرالاً فى الجيش الإثيوبى من المعارضين الذين ينتمون إلى عرق التيجراى.
ومنذ انتخاب آبى أحمد فى 2018، أجبر أكثر من 1٫8 مليون إثيوبى على ترك ديارهم بسبب العنف العرقى، وسجل ذلك على أنه أكبر حركة نزوح داخلية فى المؤشرات الدولية لعام 2018.
وبالتزامن مع ذلك، قامت جبهة الأورومو (العرق الذى ينتمى إليه آبى أحمد) باضطهاد 800 ألف مواطن إثيوبى من عرق «الكديوى» فى منظمة كوجى.
وخرجت القوى المعارضة له لتتحدث عن التناقض ما بين ما يصرح به الرجل عن «الإصلاح» و«الانفتاح» الداخلى من ناحية، و«الاضطهاد العرقى» ورعاية الظلم الاجتماعى من ناحية أخرى.
رابعاً: العلاقة مع قطر وتركيا:
المصالح القطرية التركية بدأت بقوة من عام 2009، ونمت بقوة فى عهد آبى أحمد بشكل متصاعد معتمدة على اتفاقات ومصالح بدأت فى عهد رئيس الوزراء الأسبق «زيناوى».
وتقدر الاستثمارات القطرية - التركية فى إثيوبيا بحوالى 20 مليار دولار، وأن هناك حجم ودائع واستثمارات مباشرة بـ6 مليارات.
وهناك اتفاقات تجارة ودفاع وتعاون تتعدى 25 اتفاقية بين أديس أبابا مع كل من الدوحة وأنقرة.
وتوجد حوالى 120 شركة تركية نشطة فى التعامل داخل إثيوبيا لها علاقات توظيف مباشرة وغير مباشرة بنصف مليون إثيوبى.
وهناك اتفاقية بين شركة الطاقة التركية ومثيلاتها الإثيوبية لتوريد مولدات وأبراج إنارة لخدمة مشروع سد النهضة.
هذه العناصر السابقة تجعل من سد النهضة نقطة نجاح شعبوية ذات أهمية قصوى لدى آبى أحمد يستخدمها لتأمين واقعه السياسى، ومستقبله القريب، وكورقة رابحة أمام معارضيه، ونقطة تسويق سياسى داخلياً.
التشدد إلى ما لا نهاية فى ملف سد النهضة يخدم آبى أحمد داخلياً ويأتيه أيضاً بمغانم سياسية ومالية من محور قطر - تركيا.
هناك فائدة عظمى تخدم آبى أحمد فى أزماته الداخلية، وهى «إلقاء اللوم فى كل ما يحدث من شغب أو تظاهرات داخلية على مؤامرات خارجية مصدرها عناصر مصرية وإماراتية»!!
لذلك ليس غريباً أن ترى تفسيرات رسمية للأزمات العرقية على أنها نتيجة تمويل وتآمر خارجى، وأن يتم اتهام عناصر تابعة لمصر فى قتل المطرب الشعبى الإثيوبى المعارض خلال الشهر الماضى!.
ولذلك أيضاً، ليس غريباً أن يهاجم آبى أحمد دولة الإمارات فى تصريحات علنية، ويقول: لا نريد أن يعلمنا شيخ من الإمارات أصول الدين.
ووصل آبى أحمد فى استخدام ملف السد فى خطابه الشعبوى أن «هدد باستخدام القوى المسلحة ضد مصر إذا استخدمت مصر صواريخها بعيدة المدى ضد مشروع سد النهضة».
هذا التصريح قوبل باستهجان الخارجية المصرية فى حينها، لأنها لم تعرف حتى الآن على أى تهديد يرد آبى أحمد بالضبط، حيث إنه لم يصدر أى تصريح مصرى باللجوء إلى القوة المسلحة فى ملف سد النهضة.
وفى دراسة عميقة لسياسات آبى أحمد فى مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية جاء تفسير لسياسات الرجل، ننقله على عهدة الدراسة: «إنه يرفع شعار الديمقراطية الليبرالية، وهو يلجأ أحياناً إلى استخدام خطاب سياسى يتمحور على التفسير التآمرى للأحداث».
وتقول الدراسة «إن الرجل يستغل ضعف النظام السياسى فى الداخل، ويستغل وسائل الإعلام الطيّعة له، والقضاء المسيّس لأغراضه الخاصة».
من هنا يهرب آبى أحمد من أزمات الداخل إلى ملف سد النهضة ليجعل من خصومه وعلى رأسهم مصر والسودان والإمارات ظاهرة العدو المشترك التى توحد البلاد المنقسمة عرقياً وسياسياً.