سؤال بسيط: أليس من الأسهل على الشيخ محمد بن زايد، كإنسان، وكزعيم سياسى، وقائد عسكرى، وعلى أبناء الشيخ زايد، وحكام بقية الإمارات والشعب، والخزينة الإماراتية، أن يتخذوا موقف المشاهد السلبى لما يحدث فى المنطقة من صراعات وتوترات «وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ»؟
ألم يكن أسهل على محمد بن زايد الإنسان أن ينعم بأسرته وأحفاده، ويستمتع بجزيرة فى الإمارات، أو يمارس مهام مناصبه فى هدوء وبساطة وراحة بال، دون الغوص فى مشاكل المنطقة والغرق فى تفاصيلها المزعجة المؤلمة؟
منذ عام 1948 والقضية الفلسطينية من سيئ إلى أسوأ، ويوماً بعد يوم تغرب شمس الحلول ولا يبقى سوى الاستسلام للأمر الواقع.
منذ عام 1948 وكل من حاول الاقتراب بالحل السلمى أو العمل العسكرى فى الصراع العربى الإسرائيلى دفع فاتورة غالية من الحاج عبدالقادر الحسينى إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز، ومن أنور السادات إلى ياسر عرفات، ومن الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى الرئيس أبومازن، الجميع يدفعون فاتورة غالية للمحاولة، وإسرائيل هى التى تحصّل الثمن وتفوز بالجوائز!
وأذكر أن الدكتور هنرى كسنجر قال لى معقباً على هذا الأمر عام 1982 فى واشنطن: «تاريخكم أنتم العرب هو تاريخ الفرص الضائعة».
ذلك كله يجعلنا نسأل لماذا لم يشتر محمد بن زايد راحته، ويتجنب «الصداع الاستراتيجى» الذى سوف يصيبه جرَّاء الاشتباك بالحوار المباشر مع إسرائيل؟
كان من الممكن أن يكتفى الرجل بدفع قسط الدعم السنوى للسلطة الفلسطينية، وإرسال طائرات المساعدات فى المناسبات الدينية وعند الكوارث والأزمات للشعب الفلسطينى الصبور، وهنا يصبح كما يقول أهل مصر: «عدّاه العيب».
كان من الممكن أن يفعل مثل كثير من زعامات المنطقة أن يصدر بيانات الشجب والتنديد، ويتبع سياسات المقاطعة الشاملة والكاملة للعدو الإسرائيلى، ويتعامل معه وكأنه ليس موجوداً على الخارطة السياسية.
يدرك محمد بن زايد، كدارس للاستراتيجية، أن القائد الحكيم هو الذى يحوّل الأزمات إلى فرص ومكاسب، وأنه فى سبيل ذلك عليه أن يتحلى بشجاعة المواجهة.
ويدرك، كطيار مقاتل، أن قواعد الاشتباك الجوى الحديثة يتم حسابها بالثانية واللحظة، لأن التأخر فى جزء الجزء من الثانية يعطى السبق للعدو المقابل لك فى أن يطلق صاروخاً ذكياً قاتلاً!
تشاور محمد بن زايد طويلاً مع إخوته ومساعديه فى مغزى وتداعيات قرار الحكومة الإسرائيلية السابق بضم غور الأردن وما بقى من الضفة الغربية.
وأدرك الرجل بما لا يدع مجالاً لأى شك أن هذا القرار فيه طلقة الرحمة النهائية على المبادرة العربية للسلام، وأن أى حوار بعد ذلك لا معنى ولا قيمة له، لذلك لم يكن القرار متعجلاً، بل اتخذ تفكيراً عميقاً ووقتاً يساوى أهميته.
وأدرك الرجل بحسه الاستراتيجى أن الضم سوف يضع حليفيه (الرئيس السيسى والملك عبدالله الثانى) فى وضع يضطرهما إلى تجميد وتحطيم أى تعاقدات أو اتفاقات أو جسور حوار مع إسرائيل، وبالتالى يذهب أى جهد للسلام منذ عام 1977 إلى الجحيم بلا عودة وتذهب اتفاقيتا السلام المصرية ووادى عربة الأردنية أدراج الرياح.
ويدرك الرجل أيضاً أن المنطقة متفجرة بما فيه الكفاية، وأن الصراعات الدموية الحالية تحمل شعوبها ما لا يطاق ولا يحتمل.
ويدرك أن إيران المأزومة فى صراع وجودى مع معسكر الاعتدال، ويدرك أن «أردوغان» الأحمق الذى يعانى من خلل فى الإدراك يعيش على ضلالات إعادة الخلافة العثمانية بالقوة المسلحة حتى لو كان على جثث وأشلاء البشرية جمعاء.
ويدرك محمد بن زايد أن الأمن القومى مستباح بالوجود الروسى، الإيرانى، التركى، فى سوريا، والوجود العسكرى الأمريكى، الإيرانى، التركى، فى العراق، وصراع تركيا وفرنسا واليونان وقبرص ومصر والروس فى ليبيا، وشرق المتوسط.
هنا طرح محمد بن زايد السؤال الكبير على نفسه: ماذا لو تدهورت كل هذه الصراعات المجنونة، وأضيف إليها الصراع الأخطر والأكثر تعقيداً وهو الصراع العربى الإسرائيلى بعدما تكون إسرائيل قد ضمت الأراضى قولاً، وتشريعاً، وفعلاً؟
لو حدث، وتم الضم لغور الأردن والضفة ماذا سيكون شكل المنطقة؟ وكيف ستستغل قوى مثل إيران وتركيا وقطر هذا الإجراء؟ وكيف سيؤدى هذا الفعل الأحمق إلى تقوية مشروعات قوى الإرهاب التكفيرى مثل: داعش، والقاعدة، وجبهة النصرة، والحشد الشعبى، وحماس، وحزب الله، والحوثيين، وبوكو حرام؟
إذاً لا بد من فعل أى شىء وكل شىء لمنع هذا الجنون الآتى.
هذا هو الفهم العميق لدولة الإمارات لطبيعة الأزمة، وتلك هى قراءة محمد بن زايد، والدبلوماسية الإماراتية للموقف.
ويدرك محمد بن زايد، بفهمه الإنسانى، وخبرته فى الحكم والإدارة، أن «المشاركة فى جريمة ضياع حقوق الأوطان ليست مقصورة على الفاعل المباشر فقط، ولكن المشاركة قد تكون بأشكال مختلفة».
هناك من يشارك بالتآمر، وهناك من يشارك بالتمويل، وهناك من يشارك بالغطاء السياسى، ولكن أكثر المشاركات العربية شيوعاً وقسوة فى القرن الماضى، هى جريمة المشاركة بـ«الصمت والتغاضى».
الصمت مريح والتغاضى سهل، لكنه لا يشفى ولا يحل الأزمات، بل يؤججها ويجعلها تصبح أشد دماراً حينما تنفجر فى وجه من تغاضى عن حلها.
وفى إيجاد تفاصيل التفاصيل حول هذه المعضلة حرص الشيخ عبدالله بن زايد، والدكتور أنور قرقاش، على تأصيل حجم المشكلة والتفكير العلمى فى إمكانية وجود حلول عملية وبدائل ممكنة لإيقاف هذا «الكابوس الاستراتيجى».
هنا نسأل: ماذا فعلت الإمارات بالضبط وبالدقة؟
كما قال لى مصدر مشارك فى مسألة تكوين القرار الإماراتى: «ما فعلناه ببساطة هو استغلال واستثمار الرغبة الإسرائيلية الدائمة لإقامة علاقات طبيعية معنا (وهو أمر متدرج يأخذ حيزاً زمنياً) مقابل إعلان إسرائيل وبضمانة أمريكية تجميدها لعمليات الضم (وهذا ثمن دُفع مقدماً)».
معنى كلام المصدر واضح وصريح ولا يحتاج لعبقرية لفهمه: «التجميد لقرارات الضم مقابل إقامة علاقات طبيعية»، بمعنى أن الإمارات حصلت على ثمن فورى لفعل آجل.
وكان من الأسهل تماماً على دولة الإمارات أن تفعل كما يفعل غيرها، أن تقيم جسور حوار سرية، أو تكتفى بزيارات مسئولين إسرائيليين لحضور ندوات ومؤتمرات دولية فى الأعوام من 2013 حتى 2017، وفى المشاركة فى مؤتمرات ومعارض وندوات وجلسات حوار تشارك فيها إسرائيل ولكن دون علاقات دبلوماسية أو ظهور علنى للطرف الإماراتى، أو تكتفى بدعوة إسرائيل للمشاركة فى مؤتمر للطاقة أو معرض إكسبو 2020 فى دبى.
باختصار تقدم الإمارات طوعاً الجزء الخاص بها فى الاتفاق: حوار، واتفاق، وتبادل سفارات، وتعاون فى ظل علاقات طبيعية، من أجل أن تمنع كارثة على المنطقة «وتفتدى غور الأردن والضفة».
وهنا نستخدم المنطق البحت والمجرد، هل كان هناك سيف على رقبة الإمارات للتوصل إلى هذا الاتفاق؟ هل كانت التظاهرات الشعبية -مثلاً- فى أبوظبى ودبى سوف تخرج تطالب بإلحاح بمثل هذا الاتفاق؟
الإجابة: بالقطع لا، لكنه قرار جاء من وحى الضمير والمسئولية.
وهنا نسأل: ألم يدرك الشيخ محمد بن زايد، والشيخ عبدالله، والدكتور قرقاش، منذ اللحظة الأولى، أنهم بهذا الاتفاق سوف يواجهون 3 أنواع من ردود الفعل المتوقعة. وهى:
1- رد فعل برىء، لكنه غير واعٍ ولا فهم لمعنى القرار بسبب ضعف المعرفة والوعى وعدم التخصص.
2- رد فعل تقليدى عمره شعبوياً أكثر من 70 عاماً يقوم على أن ثمن رفض أى حل أفضل من قبوله، لذلك «قل لا دائماً، وهاجم كل من يتجرأ ويقول نعم».
3- رد فعل طارئ شرير متوقع من «الدوحة وأنقرة وطهران»، وحلفائهم فى المنطقة يهدف إلى تشويه القرار الإماراتى والاغتيال المعنوى للقيادة السياسية.
كان أسهل كثيراً كثيراً كثيراً عدم الإقدام على مجرد التفكير فى هذا الاتفاق الثلاثى.
القائد الاستراتيجى، كما يقول «صن تسو» فى كتاب «فن الحرب»: «هو الجسور الذى يتحمل أكبر المخاطر من أجل تحقيق أكثر الأهداف سمواً ونبلاً».
وكما يقول الشاعر: «من يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر».
وحلم محمد بن زايد كان فى حجم الكون كله، بلا سقف، وبلا حدود، يطلق فيه حرية الإبداع والتفكير، مثله مثل أحلام الشيخ محمد بن راشد وجميع النخبة السياسية والإدارية فى كل الإمارات.
من هنا علينا أن نفهم أن رد الفعل المضاد للاتفاق سيكون بحجم الاختراق التاريخى الذى أحدثه.
وهنا أيضاً يجب ألا نخشى أن نُخرج كل الأفكار المضادة كما جاءت من أنقرة، وطهران، والدوحة، ومن غزة، إلى السطح، ونطرحها للنقاش الموضوعى، دون خوف أو خجل، وللإجابة على الافتراء العظيم الذى طرحوه: «هل الاتفاق خيانة، أم أنه فى حقيقة الأمر منع لكارثة وفتح طاقة أمل فى نفق مظلم؟».
غداً نناقش، بلا خوف أو عُقد، الاتهامات كما جاءت، ونرد بإذن الله.