فى محكمة الحريرى، كما فى كل المحاكم التى تطبق نص وروح القانون، «الحكم هو عنوان الحقيقة».
والقاضى العادل، أى قاضٍ يحترم الضمير ويخاف الله ويطبق النصوص، يقضى فى أحكامه بناءً على الأوراق والمستندات والأدلة التى وفرها طرفا المحاكمة، أى الادعاء والدفاع.
فى قضية الحريرى، لم يستطع الادعاء توفير أدلة دامغة لا يرقى إليها الشك لدى هيئة المحكمة الدولية.
والسبب يعود إلى الآتى:
1 - أن تشكيل المحكمة وبدء عملها بناءً على قرار مجلس الأمن الدولى جاء بعد شهور طويلة من انقضاء حادث الاغتيال.
2 - أن القضاء المحلى اللبنانى لم يُقدم من الملفات والوقائع والأدلة الجنائية الأساسية ما يمكن أن يخدم الادعاء.
3 - أن مسرح الجريمة، أى مكان التفجير، أمام فندق السان جورج الشهير أمام ساحل منطقة الزيتونة بكورنيش بيروت، قد تم العبث به، ولم يتم القيام بالإجراءات الاعتيادية المتعارف عليها فى مثل هذه الأحداث من تحويلها لمنطقة محظورة تحت حراسة مشددة، لحين قيام فرق البحث الجنائى بعملها المحترف.
4 - أن هيئة المحكمة لم تتمكن من استجواب أى من المتهمين الأربعة بسبب اختفائهم المريب عقب الحادث.
5 - أن 150 شاهداً من ضمن 279 شاهداً قدموا إفاداتهم كتابة، لأنهم كانوا يخشون على حياتهم من مخاطر تقديم شهاداتهم حول الحادث.
6 - أن المحكمة فى صميم عملها حاولت تجنب التفسير أو التحليل السياسى رغم أن الجريمة ذات دوافع سياسية بامتياز، وحدّدت فقط ما يمكن تسميته «البيئة السياسية المحيطة» التى مهدت لعملية الاغتيال.
7 - أن المحكمة التزمت حرفياً بقواعد صحيح القانون الأوروبى المعمول به والذى يعتمد على أن الحكم يجب أن يُبنى على معطيات حددها القانون تفصيلاً، لذلك استندت المحكمة -فقط- على الأدلة الظرفية، لأنه لم تتوافر لها أدلة مباشرة دامغة يمكن «أن تطمئن إليها بشكل لا يرقى إليه الشك».
8 - أن المتهمين الثلاثة الذين برأتهم المحكمة فى حكمها الأخير كان الحكم مبنياً على عدم كفاية الأدلة التى يمكن أن تدينهم. والمطّلع على تفاصيل الوقائع سوف يكتشف أن كل ذلك يشير إلى ضلوع المتهمين الكامل فى تنظيم إرهابى يسعى لتنفيذ عملية اغتيال، ولكن لم يوفر الادعاء للمحكمة دليلاً مباشراً يوضح دور كل منهم فى الجرم المشهود واكتفى باللجوء إلى أدلة ظرفية.
9 - أن المحكمة أعطت مهلة لكل من الادعاء والدفاع لتقديم مذكرات حول الحكم الصادر الذى يمكن اعتباره حكماً ابتدائياً غير نهائى.
القضية الآن أصبحت مأزقاً سياسياً لحزب الله الذى ظل لمدة 13 عاماً يشكك فى أغراض ونوايا وتوجّهات هذه المحكمة، وكان يقول إنه غير معنى بأى حكم يصدر عنها لأنها -حسب وصف الحزب- ذات أحكام مُسيسة معدّة سلفاً تسعى لإدانة حزب الله.
الآن يصعب على الحزب أن يصف الأحكام الصادرة بتبرئة ثلاثة من المتهمين وإدانة متهم واحد، بأنها مُسيسة أو غير عادلة.
هنا سوف يؤدى ذلك إلى معضلة لدى الحزب فى التعامل مع هذه الأحكام! كيف؟
لأنه بنفس المنهج الذى قَبِل به الحزب براءة 3 من أعضائه، عليه أيضاً، وحكماً، ومنطقياً، أن يقبل الحكم ذاته الصادر بإدانة المتهم الرابع.
هنا سوف يجد الحزب نفسه أمام 3 احتمالات:
1 - رفض كافة أحكام المحكمة، وهو غير منطقى تجاه الأحكام التى برأت ثلاثة من أعضاء الحزب.
2 - التعاون مع المحكمة وتسليم المتهم سليم عياش المدان بخمسة اتهامات، وبالتالى قد يضع ذلك قيادة الحزب السياسية فى حالة «حرج شديد» مع القيادات الأمنية الحزبية، مما قد يؤدى إلى انشقاقات ليست عادية فى الشرائح الوسطى من الحزب.
3 - الاحتمال الثالث أن يستمر اختفاء أو إخفاء سليم عياش إلى الأبد، وتذهب معه الحقيقة إلى الأبد.
من ناحية أخرى، تطرح مسألة ثبوت عدم تسييس المحكمة الدولية للأحكام، خطورة تطبيق نموذج اللجوء للتحقيق الدولى فى مسألة التفجير المروع فى مرفأ بيروت.
لقد تعامل سعد الحريرى (ابن الشهيد) مع أحكام المحكمة بمنطق وأسلوب القبول الكامل بالأحكام، وهى بادرة إيجابية لرجل يفهم ضرورة الانصياع لسلطة القانون، وهذا أيضاً موقف سياسى يحقن الدماء، ويمنع أى احتقان طائفى فى شوارع لبنان.
تصوروا لو خرج سعد الحريرى، وطالب أنصاره -بوصفه زعيماً سياسياً سنياً وزعيماً معارضاً، والأهم «ولىّ الدم» فى قضية اغتيال والده- بالاعتراض على أحكام المحكمة؟
فى المقابل المطلوب الآن من السيد حسن نصر الله أن يتعامل بنفس الروح والمنهج، ويتعاون مع المحكمة ويجيب عن السؤال: هل سيتم تسليم المتهم الوحيد المدان بقتل رفيق الحريرى حتى يعرف العالم من الذى أصدر القرار الأعلى بتصفية رفيق الحريرى؟