سأطرح اليوم سؤالاً مؤلماً للغاية:
ماذا يحدث حينما نكتشف أن أحوالنا وقت وجود المحتل الغاصب كانت أفضل من حكم أبناء الوطن؟
ماذا يحدث حينما يتوق الناس إلى زمن الاحتلال وينشدون «فين أيامك يا حبيب العين»؟!
مأساة مشروعات إقامة دولة وطنية مستقلة وقعت فى خطيئة أن من حكموا استبدوا وأفسدوا وطغوا وتجبروا أكثر من قوى الاحتلال والانتداب!
لذلك نسمع بين الحين والآخر عبارات مكتومة على ألسنة شيوخنا: فين أيام الإنجليز؟ يا ما أحلى أيام الفرنسيين؟ رحم الله أيام موسولينى! ليتنا كنا فى الكومنولث! أين أنت يا روميل؟
وصل الأمر فى مدينة عربية أن استقبلت الناس المقهورة مصفحات قوات العدو الإسرائيلى بالورود والحلوى!
حينما نصل إلى مرحلة أن تتمنى عودة جلادك وقاتلك، فإن ذلك لا يعنى فقط قمة الشعور بالمذلة والهوان، ولكن أيضاً يعنى الفشل الكامل لمشروع الدولة الوطنية التى يحكمها أبناؤها.
الذى أثار هذه المسألة مؤخراً هو الدعوة التى أطلقتها الممثلة اللبنانية المبدعة «كارمن لبس» عقب شعورها بالإحباط الشديد عقب تفجير مرفأ بيروت وقبيل وصول الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون لبيروت فى زيارة تضامن.
قالت السيدة «لُبس»، كما شرحت بعد ذلك، إنها كانت ترى -من باب الإحباط- أن يعود لبنان إلى زمن الانتداب الفرنسى.
وبالتأكيد لم ترد السيدة لبس أن يفقد لبنان السيد المستقل سيادته وأن يعود إلى زمن الوصاية الفرنسية والانتداب، لكنها قالت بعدما قهرها اليأس، والذل، والحزن والإحباط الوطنى، وبعدما رأت معاناة شعب يتألم ويصرخ بلا جدوى أمام حكامه، إن أسوأ شىء يمكن أن يحدث ـحتى لو كانت عودة المستعمرـ بالتأكيد أفضل من هذه «العصابة المفسدة» التى تسمى نفسها نخبة حاكمة!
الحكم يقوم على سيادة الدولة، والسيادة تعتمد على الاستقرار، والاستقرار يقوم على رضاء المواطنين، ورضاؤهم لا يأتى إلا من الثقة فى الحكام، والثقة لا تباع ولا تشترى لكنها تكتسب!
ومن حكموا لبنان، فى العصر الحديث، فى غالبيتهم فقدوا ثقة شعوبهم، لأنهم أفسدوا فى البلاد والعباد، ونهبوا المال العام، وباعوا سيادة الوطن، وتعاملوا مع الدولة وكأنها شقة مفروشة كبيرة تتسع لكل من دفع سعرها!
والمؤسف أن يكون المحتل أكثر فهماً للشعب من «ابن البلد»!
مثلاً: من يطلع على مذكرات شارل ديجول يعرف أن الجنرال الذى خدم فى مقتبل حياته ضابطاً فى جبل لبنان عقب الحرب العالمية الأولى كان يؤمن بأن الشخصية القومية للبنانى تعتمد على ركيزتين، المهارة والذكاء من ناحية، والعاطفة والحماسة من ناحية أخرى.
وكان «ديجول» يوصى باحترام هاتين الصفتين.
وقبل ذلك كان جاك شيراك من أقرب رؤساء فرنسا عاطفة تجاه لبنان، وأصدق أصدقاء الشهيد رفيق الحريرى، حتى إنه حينما تقاعد واشتد عليه المرض كان يعيش فى منزل من منازل الحريرى فى باريس.
وعندما اغتيل الحريرى كان أرفع زعيم عالمى يركب طائرته مع زوجته للتعزية فى وفاة «صديقه المقرب».
بالأمس شاهدنا إيمانويل ماكرون يخترق حاجز السلبية الدولية والحصار العالمى لحكومة حزب الله فى لبنان ويصل إلى بيروت «لدعم ومناصرة وبلسمة جراح الشعب اللبنانى».
نزل ماكرون شوارع «الجميزة»، وهى منطقة تاريخية مميزة فى حى الأشرفية العريق، لها صبغة فكرية وتمتاز بمنازل تراثية عريقة، وفيها أماكن يرتادها الشباب فى أيام «الويك إند».
اختلط «ماكرون» بالمواطنين فى الجميزة، لم يخش أى هاجس أمنى، ولم يخش مخالطة الناس فى بلد يعانى من انفلات فيروس كورونا، بل احتضن شابة باكية ارتمت فى أحضانه تشكو لها وجعها.
أثبت ماكرون فى لقاءاته مع الناس البسطاء وجماعات المجتمع المدنى، وزعماء الأحزاب، ورؤساء السلطات الثلاث أنه متعمق فى ملفات لبنان أكثر من كبار ساسته، ولديه الوعى والفهم والحلول أكثر من كل النخبة الحاكمة!
كان صراخ بعض الناس فى شوارع بيروت مزيجاً من 3 أمور:
1- الدعوة لدعم ثورة أكتوبر 2019.
2- عدم إعطاء أى دعم فرنسى لمؤسسات الدولة الفاسدة ولكن إيصاله مباشرة إلى مستحقيه من أبناء الشعب الصبور.
3- مساعدة الشعب اللبنانى فى تغيير النظام.
وكان ماكرون صريحاً واضحاً بشكل لافت حينما أكد للصحفيين اللبنانيين: «أنا لست لبنانياً أنا لا أستطيع أن أفرض أو أتدخل فى شئون سيادة دولة، أنتم الذين تختارون حكامكم وأنتم -وحدكم- الذين تغيرونهم».
حينما يصاب بعض رموز النخب السياسية فى عالمنا العربى بحالة من «التبلد السياسى» وانعدام كامل فى التعاطف مع الجماهير، وفقدان مؤشرات الرضا أو السخط عند الناس تصبح الكوارث على الأبواب، ويصبح الوطن كله مهدداً بالخطر.
الحالة اللبنانية ليست غريبة عن الكثير من حالات الإحباط الوطنى تجاه الإخفاق الكامل لحكم أبناء الوطن.
ولست أعرف ما الذى يجعل أى إنسان لديه الحد الأدنى من الكرامة الوطنية أن يقبل أن يعامله رئيس دولة أجنبية على أنه أمر واقع مضطر لمخاطبته من باب البروتوكول، لكنه، لا يثق فيه، ولا فى قدرته، ولا فى مصداقيته، ولا فى نزاهته، إلى الحد الذى يحجم فيه عن إعطاء أى مساعدات مباشرة لحكومته، ويضع شرطاً أن تكون الأمم المتحدة هى جهة الإشراف عليها لضمان عدم سرقتها!؟
كان للزعيم الفرنسى شارل ديجول الذى أحب لبنان -عن عاطفة صادقة- نصيحة وجهها إلى النخبة السياسية اللبنانية من خلال لقائه بالشباب فى الجامعة الشيوعية اللبنانية قال فيها:
«عشت فى لبنان من عام 1929 - 1931 وأرى أن ضمان بقاء لبنان يكمن دائماً وأبداً فى ضرورة السعى لإصلاح الدولة اللبنانية، وأولوية المصلحة العامة على أى مصالح أخرى، والتأكيد على دولة القانون والخدمة العامة وعلى دولة الحق، وهو أمر تفتقد إليه».
ولو عرف ديجول ما يحدث فى لبنان الآن لتقلب الرجل فى قبره بمسقط رأسه لأننا ما زلنا نفقد أى حق من أى نوع!
لست أعرف أى ساسة هؤلاء الذين يقبلون أن يجلسوا مع رئيس دولة أجنبية ليعطيهم دروساً فى الشفافية، والنزاهة، وضرورة مكافحة الفساد، والإقدام على خطوات محددة نحو الإصلاح. ويجعل أى مساعدة مشروطة بذلك؟
حالة التبلد السياسى أصابت النخب السياسية، وحالة الكفر بالهوية الوطنية أصابت الناس، وما بين هذا وذاك يضيع منا أعظم وأعلى الأشياء وذلك هو «الوطن».