نعشق بداخلنا المصالح، ولكن ندّعى كذباً أننا نترفع عنها!
هذا التناقض الحاد بين ما نقول علناً وما نفعل سراً، حتماً له تفسير علمى مقبول، حاولت جاهداً طوال تجربتى المتواضعة فى الحياة أن أفهمه، وأعترف: لقد عجزت تماماً عن الفهم أو التفسير!
نعطى إشارة ضوئية تجاه اليسار، لكننا فعلياً ننحرف نحو اليمين، ندّعى البطولة الوطنية بينما نتفق على التفريط فى السيادة، نرفع شعار سيادة القانون والدستور بينما نقوم بانتهاكهما ليل نهار!
نعتبر أن الحرص على المصالح، كما هو الأمر فى ثقافتنا الوطنية وعقليتنا السياسية، هو «دنس دينى»، و«خيانة وطنية» و«عار سياسى»، و«تفريط فى المبادئ».
وتعريف المصالح هنا، كما أقصدها، هى المصلحة الخاصة المشروعة، أو «المصلحة الوطنية العليا» ذات المبادئ التى استقرت البشرية عليها على مر السنين.
مثلاً نقول: «هذا إنسان لا يفكر إلا فى مصلحته»، وهذا يريد أن «يتمصلح»، أو هذا الرجل «مصلحجى»، وهذه الجماعة ذات مصالح خاصة..
فى الثقافة الأنجلوساكسونية، هناك ما يُعرف بجماعات المصالح، من مهنيين أو سياسيين أو تجار أو فئويين، يحظون بمشروعية واعتراف بحقوقهم التى يعبرون عنها، لذلك كى يعبروا عن مصالحهم عن طريق قوى تمثلهم فى المجتمع أحياناً يتحولون إلى جماعة ضغط.
ويقوم الفكر «الكينزى» نسبة إلى المفكر الاقتصادى «جون مينارد كينز» الذى يحدد متى تتدخل الدولة أو لا تتدخل فى توازن الاقتصاد على اعتبار أن مصالح الفرد هى التى تحركه من أجل المبادرة والإبداع والإنتاج فى ظل نظام اجتماعى اقتصادى يحكمه القانون.
العقل الغربى عقل انتفاعى يقوم على فكرة المنفعة، والمنفعة هنا ليست دعوة مفتوحة للاستغلال أو الفساد أو التسلط أو تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، ولكن تم تحصين مبدأ المنفعة بالأخلاقيات والمبادئ الإنسانية بنصوص قانونية ولوائح منظمة.
المصلحة، المنفعة، ما دامت شرعية، مشروعة، لا تضر عسفاً وظلماً بمصالح الآخرين أو تعتدى على حقوق المجتمع، فهى أمر لا يجب الخجل منه أو المزايدة عليه.
هنا نأتى لقضية القضايا فى هذه المعضلة، وهى عملية تحديد أين تكمن المصلحة فى قضية ما؟
مثلاً: قد يكون مفهوم المصلحة لدىّ هو مفهوم الضرر عندك والعكس صحيح.
مثلاً: قد يكون تحرير سعر الصرف للنقد الأجنبى لصالح الدولة ولكن ضد مصالح بعض القطاعات.
مثلاً: قد يكون هدم المبانى التى بنيت على أملاك الدولة لصالح النظام وحقوق المجتمع لكنه ضد مصالح المخالفين من أصحابها.
مثلاً: قد يكون خيار الاقتصاد الحر لصالح الموازنة العامة للبلاد لكنه ضد شرائح وطبقات اجتماعية من المهمشين.
مثلاً: قد يكون التفاوض هو للحفاظ على أملاك وأرواح المجتمع لكنه يخالف مصالح مراكز قوى فى النظام.
وقد يكون التفاوض مع العدو هو الأفضل تبعاً للظروف الموضوعية الحالية، لكنه يخالف قوى استقرت مصالحها وثبتت قواها السياسية على الرفض والشجب والممانعة.
كل ذلك مقياسه عندى هو نقطة جوهرية لا بديل عنها وهى مدى الصدق فيما نفعل، وبالتالى مدى اتساق ما تؤمن به مع ما تفعل.
إذا قلت شيئاً وأنت لا تؤمن به هلكت!
إذا فعلت شيئاً عكس ما تؤمن به هلكت!
إذا خالفت أحداً وأنت تؤمن -سراً- بأنه على صواب هلكت!
إذا هددت بالحرب وأنت تريد السلام هلكت!
إذا طلبت السلام وأنت تريد الحرب هلكت!
إذا دعوت بالحرية وأنت ديكتاتور هلكت!
إذا وعدت بمحاربة الفساد وأنت من كبار رعاة الفساد هلكت.
وأكبر المهلكات هى أن تعرف ما هو الصواب وتتقاعس عنه وتفعل الخطأ، وأن توقن أين هى مصلحة البلاد والعباد وتجبن عن شجاعة القرار.
هنا أستحلفكم بالله: لمَ يخلق الخالق الخلق كلاً مسئولاً عن نفسه، مسئولاً عن أفعاله، ويحاسب فى يوم العرض العظيم على ما جنت يداه؟
هنا نسأل: أليس كل إنسان من حقه أن يحمى مصلحته ويدافع عنها؟
هنا نسأل: أليس منطقياً أن تكون مسئولية أى راعٍ أولاً تجاه رعيته؟ وأن تكون مسئولية أى حاكم هى الدفاع عن مصالح شعبه قبل الدفاع عن مصالح أى شعب آخر؟
نعم الدفاع عن مصالحنا أولاً، شريطة ألا يكون فى ذلك إضرار بالآخرين، كما أمرنا الله وكما هو روح ونص القانون، وكما هى أخلاقيات الإنسانية.