كنت فى «أسوان» مندوباً شاباً لجريدة الأهرام لتغطية نشاط الرئيس أنور السادات -رحمه الله- إلا أن القدر أراد لى يومها أن أغطى «للأهرام» وصول الإمبراطور محمد رضا بهلوى وأسرته عند مغادرتهم الأخيرة لطهران.
فجأة، وجدت نفسى، وحيداً، قليل التجربة، مطلوباً منى أن أتابع أهم قصة إخبارية فى العالم.
كان الحدث، يبدو للوهلة الأولى هو إيران وكان بطله -للوهلة الأولى- يبدو الشاه وكان المعارض لهذه الزيارة هو أية الله الخمينى، الذى يقود الثورة الشعبية من منزله فى «نوف لوشاتو» خارج باريس.
والآن وبعد مرور سنوات منذ العام 1979 يتبين للإنسان، أن الحدث مكانه مصر وليس إيران، وبطله هو العظيم الراحل أنور السادات وليس الشاه، وأن غضب المعارضة هو غضب الجماعات الإسلامية المصرية وليس «الخمينى»!
كانت تعليمات الرئيس السادات يومها هى معاملة الشاه بروتوكولياً وإعلامياً وإنسانياً كزعيم دولة وصديق لمصر.
أهمية قرار القبول باستضافة الشاه من رئيس مصر على أرض مصر بترحيب من الشارع المصرى، يعكس حضارة شعب وشجاعة زعيم، وسماحة إنسان.
بعد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، كنت فى واشنطن لحضور ندوة عن مصر فى جامعة جورج تاون، وفى هذه الندوة قال الدبلوماسى المخضرم هارولد سوندرز، الذى كان يعمل وكيلاً للخارجية الأمريكية فى إدارة الرئيس جيمى كارتر: هل تعرف ما أهم قرارات أنور السادات؟
كانت الإجابة تنحصر ما بين دوره كبطل لحرب أكتوبر المجيدة، أو مبادرته للسلام مع إسرائيل وزيارته للقدس، ولكن «سوندرز» قال: «بالتأكيد قرارا الحرب والسلام قراران تاريخيان، لكنهما من وجهة نظرى ليسا الأهم».
سألته: إذن، ما القرار الأهم للرئيس أنور السادات من وجهة نظرك؟
قال: شجاعته العظمى فى استقبال شاه إيران المخلوع هو وأسرته وإعطاؤه اللجوء لمصر والعلاج بها، وإقامة جنازة عالمية له فى مصر ودفنه فيها.
عدت وسألته: ولماذا تعطى هذا القرار أهمية؟
قال: استطاع «السادات» أن يعطيه هذا اللجوء بهذه الرعاية الكريمة فى وقت فقدنا نحن هنا فى واشنطن مقومات الشجاعة والإنسانية وتخلينا عنه سياسياً وإنسانياً.
القرار الأمريكى برفض استقبال الشاه جاء بعد ثمانية أشهر من آخر زيارة لإمبراطور إيران وزوجته إلى واشنطن فى عهد الرئيس كارتر.
يومها وقف الرئيس الأمريكى فى قاعة الاحتفالات بالبيت الأبيض، رافعاً كأس النخب للترحيب بالشاه فى حفل عشاء رسمى مهيب قائلاً: «أنت من أعظم الأصدقاء التاريخيين للولايات المتحدة الأمريكية ونموذج حكمك هو نموذج رائع للتحديث والإصلاح، ونحن نعتبر أن إيران فى عهدكم هى جزيرة للتقدم وواحة للأمان».
خروج الشاه إلى مصر، يجب التوقف أمامه بالتأمل العميق، لأن له دلالتين:
الأولى: أن الولايات المتحدة لا صديق لها، ولا حليف دائم، ولا عزيز عليها من الناحية العاطفية، هى فقط تتعامل من منظور المصلحة الذاتية الوقتية، لذلك فإن كل دولة أو نظام أو زعيم يمكن التضحية به أو بهم عند الضرورة.
الدلالة الثانية: أن أنور السادات إنسان عظيم، صاحب مبادئ، لم ينزع الأخلاقيات عن صناعة القرار، لذلك تحمل ما لا يطيق بشر وواجه عواصف الداخل والخارج حينما فتح أبواب مصر للشاه وأسرته.
كان الرئيس السادات دائم الترديد لن ننسى للشاه أنه رغم علاقته المميزة بإسرائيل والولايات المتحدة وقف مع مصر سياسياً ومادياً أثناء حرب أكتوبر، وشارك فى قرار قطع النفط عن العالم دعماً للعرب.
أنور السادات عرف معنى الإنسانية ومعنى الوفاء، فى عالم لعبة الأمم التى لم تعرف سوى المصالح والانتهازية وبيع الضمائر.
رحم الله أنور السادات.