إعلانان ليبيان حول اتفاق محتمل مرهون بالدرجة الأولى بحقيقة نوايا القرصان التركى، والممول القطرى.
لا أحد يريد الحرب، أى حرب، بأى ثمن، حتى لو كانت حرباً مجانية، لأنها أولاً وأخيراً تتعلق بأهم وأرقى ما خلق الخالق وهو البشر.
بكل النوايا الحسنة متفائل، وبكل الإيجابية نشجع ونتعاون لتسوية ليبية - ليبية تحافظ على السيادة، والحرية، والعدالة، والثروة للشعب الليبى الصبور.
ولكن علمتنا التجارب القديمة والقريبة، وآخرها تلك الأسابيع والأشهر التى تلت قمة موسكو وقمة برلين، اللتين تم استغلالهما أبشع استغلال من تركيا لتنفيذ عملية نقل مرتزقة الإرهاب التكفيرى السوريين من سوريا إلى غرب ليبيا عبر تركيا.
لذلك نتعامل بكل الأمل فى نجاح الاتفاق المراد بين عقيلة صالح وفايز السراج ولكن بخوف ورجاء وشك مبرر من خطط أنقرة والدوحة التى يتم ترتيبها عسكرياً، وآخرها زيارة وزيرى دفاع البلدين للسراج منذ أسبوع مضى.
لماذا كل هذا الصراع على ليبيا؟
كما يقول «صامويل هنتنجتون»: «إذا عرفت جوهر الصراع وهدفه الاستراتيجى عرفت الإجابة عن سؤالى الحرب والسلام».
فى الحالة الليبية هناك عدة عناصر تشكل جوهر الصراع:
1- النفط: الدولة رقم 19 عالمياً فى احتياطات نفط العالم.
2- الغاز: تؤكد الأبحاث المؤكدة أن لديها كميات واعدة.
3- الاستثمارات: 120 مليار دولار أمريكى، قبالة سواحلها الممتدة.
4- الصراع الإقليمى: يدور حول ليبيا عدة صراعات إقليمية من مصر شرقاً والسودان فى الجنوب الشرقى وتشاد والنيجر فى الجنوب، والجزائر وتونس فى الغرب.
5- الموقع الحاكم:
هى الدولة رقم 17 فى المساحة عالمياً وهى رابع دولة مساحة فى أفريقيا.
إذن كل من يسيطر على مفاتيح ليبيا يتحكم بقوة فى كل هذه العناصر.
بالنسبة لتركيا وقطر، جوهر الصراع هو التحكم فى ليبيا كاملة للسيطرة على الموقع الاستراتيجى للاستيلاء على الثروة، والاستثمارات، واستخدامها كقاعدة للتهديد الإقليمى والمقايضة الدولية.
وأفضل من تنبه لذلك كان السفير الليبى «عارف النايض» المبعوث الخاص لرئيس البرلمان الليبى ورئيس تكتل إحياء ليبيا الذى وجه رسالة مفتوحة للأمين العام للأمم المتحدة فى 29 يونيو 2020.
وكانت له رؤية مستقبلية واعية حينما حذر مراراً من مخاطر تلاعب حكومة السراج وجماعته فى أى اتفاق محتمل مع فريق الجيش الوطنى والبرلمان الشرعى الليبى فى طبرق.
ويفهم من كلام النايض نقطة محورية بالغة الأهمية وهى أن ما يمنحه المجتمع الدولى من «استقلالية» مزعومة للهيئة الوطنية للنفط الليبى هو خطأ كبير، لأن هذا الكيان الذى توجد لديه أهم ثروات الشعب الليبى وموارده يجب ألا يترك بلا رقابة شعبية من البرلمان، وبلا سياسة حوكمة.
ويحذر النايض فى السابق من أن النفط الليبى كان يباع طوال الفترة الماضية عبر شركات خاصة مسجلة فى الخارج وبالذات فى سويسرا دون أى رقابة أو سيطرة على العقود والأسعار والعائدات.
وقيل أيضاً إن بعض طائرات الهيئة استخدمت لأغراض نقل ودعم لأفراد وأسلحة ميليشيات حكومة السراج.
وتشير معلومات إلى أن 9 من مديرى المصرف المركزى الذى تصل إليه عائدات النفط ينتمون لجماعة الإخوان!
ذلك كله يؤكد أنه لا يوجد ولا يمكن أن يكون هناك ما يسمى بالحيادية فى ملف النفط الليبى.
يمكن رصد رد فعل ما نجم عن إعلان الاتفاق الأخير بما له وما عليه على النحو التالى:
أولاً: ملاحظة شكلية لكنها بالغة الأهمية القصوى وهى أن الإعلان عن الاتفاق صدر فى بيانين متزامنين فى الوقت، مختلفين فى المصدر والمحتوى، بمعنى صدر بيان عن عقيلة صالح وآخر عن المجلس الرئاسى.
الملاحظة الثانية أن الاتفاق عن إيقاف إطلاق النار كان من ناحية المبدأ ولكن تم ترك «آلية التنفيذ»، وجهة المراقبة لجولة أخرى من الحوار.
الملاحظة الثالثة:
أن البيانين يتحدثان عن «إيقاف فورى لإطلاق النار» على أن تصبح «سرت والجفرة» منزوعتى السلاح وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة ووجود شرطة من الجانبين، ذلك يطرح «كيفية تشكيل القوات التى تمثل الأطراف فى تأمين سرت والجفرة؟».
وهذه المسألة يتوقع أن تكون شديدة الحساسية لدى الجيش الوطنى وهيئة الأركان الليبية برئاسة المشير حفتر، لأنهم يؤمنون بأن الجيش الوطنى هو التعبير الوحيد والحقيقى عن كافة فصائل ومناطق الشعب الليبى، وأن غيرهم، أى قوات السراج، هى ميليشيات وعصابات تكفيرية أو إجرامية.
الملاحظة الرابعة:
يجب أن نشرح لمن لا يعرف أن «الصخيرات» ينص على أن سلطة استخراج النفط الليبى وإدارته وتحصيل عائداته هى سلطة الهيئة الليبية، وأنها يجب أن تكون سلطة ذات استقلال كامل عن أى نفوذ.
هذا الكلام يبدو للوهلة الأولى حقاً، لكنه فى الواقع حق يراد به باطل يشجع على الفساد والتلاعب ذى الأهواء السياسية، بحيث تذهب أموال النفط الليبى «المملوكة للشعب» إلى البنك المركزى «المملوك للشعب» لكنها فى النهاية تدار بواسطة مجموعة من «الإخوان» التابعين لفايز السراج وذوى الولاء الكامل لتركيا مباشرة.
من هنا يمكن فهم التحويلات المباشرة من هيئة النفط الوطنية للبنك المركزى الليبى التى تقوم بإيداع المبالغ كودائع فى البنك المركزى التركى لإنقاذ الليرة التركية المتدهورة.
وهذا أيضاً يفسر تحويل بعض من هذه الأموال إلى البنك التعاونى الزراعى التركى تحت مسمى وهمى أنه مقابل بضائع وخدمات تركية، وهو فى حقيقة الأمر مقابل أسلحة وأجور خبراء ومرتبات مرتزقة وتكاليف نقلهم جواً وبحراً ومصروفات إعاشتهم فى تركيا وليبيا.
هناك مسألة يمكن أن تفجر أى اتفاق بين أطراف الصراع، وهى مسألة الدعوة لخروج القوات الأجنبية والمرتزقة (أى الميليشيات والأتراك وكل من هو يحمل سلاحاً وليس ليبياً) من أجل «استرجاع السيادة الكاملة على التراب الوطنى».
هنا تتولد عدة أسئلة:
1- من هو المرتزق؟ وما هو تعريفه؟
هنا نحذر، إذا كان التعريف هو المقاتل غير الليبى الجنسية، فإن الحكومة الليبية أصدرت من وزارة داخليتها جوازات سفر ووثائق تجنيس للآلاف من هذه الميليشيات التكفيرية!
2- ما هى الجهة ذات السلطة والقوة التى سوف ترصد وتحدد وتقوم بترحيل هذه الميليشيات الأجنبية؟
3- وإذا رفضت هذه الميليشيات الرحيل أو عمليات الترحيل القصرية حسب القرار فمن هى القوى التى ستقوم على إجبارها؟ وما هى قواعد الاشتباك فى هذا المجال؟
4- لو افترضنا جدلاً أن عمليات الترحيل كانت صادقة النية، وتمت بسلام وبشكل طوعى كامل المثالية، فإن السؤال الزلزال هو: إلى أين ستذهب هذه الميليشيات التكفيرية؟ هل سيعود التكفيرى المرتزق السورى مرة أخرى إلى سوريا؟ أم سينقلهم إلى تركيا؟ وهل سيعود التونسى إلى تونس والشيشانى إلى الشيشان بما يعنى ذلك من رد فعل روسى؟ وهل سيعود مرتزقة السودان إلى السودان الذى يتخلص الآن من قوى الإرهاب؟ وهل ستسمح فرنسا بعودة إرهابيى تشاد والنيجر حتى يهددوا مرة أخرى دول الساحل الأفريقى التى تعتبر منطقة نفوذ تقليدى لفرنسا؟
هذا كله يأخذنا إلى سؤال الأسئلة وهو ما فائدة هذا الاتفاق لكل من قطر وتركيا إذاً؟
1- لم يصل المال لحكومة السراج.
2- ولم تسيطر تركيا على الهلال النفطى.
3- ولم يتم اختراق خط سرت - الجفرة بهدف تهديد الحدود الغربية لمصر للتأثير على استقرار نظام 30 يونيو 2013 الذى يشكل عداء تاريخياً للإخوان وتركيا وقطر؟
إذا حدث ذلك بحذافيره وتفاصيله، فإن «غزوة السلطان العثمانى التى تمت بتمويل قطرى» كانت حماقة فاشلة مكلفة لم تأت بأهدافها الاستراتيجية.
أردوغان الآن يعيش أياماً تعيسة للغاية للأسباب التالية:
1- تدهور حاد للاقتصاد التركى.
2- زيادة شعبية المعارضة التركية فى الشارع.
3- انقسامات حادة داخل حزبه الحاكم.
4- صدور بيان صريح ضد سلوك القرصنة البحرية الذى ترتكبه البحرية التركية ضد اليونان وقبرص من رئاسة الاتحاد الأوروبى.
5- مناورات بحرية أمريكية مع اليونان وقبرص كرسالة صريحة للدعم الأمريكى لأثينا ونيقوسيا.
ويذكر أن الأمريكيين من أصل يونانى وقبرصى هم قرابة 4 ملايين مواطن ولديهم أكثر من 3 آلاف شخصية مؤثرة فى مجالات السياسة والفن والمال والاقتصاد والإعلام.
ويذكر أيضاً أن هذه الجالية ذات ارتباط عضوى مع المنظمات اليهودية - الأمريكية منذ مطلع الخمسينات وتنسق فيما بينها بشكل شبه متطابق.
6- أعطت مستشارة ألمانيا رسالة تهديد غاضبة لأردوغان مؤخراً بشكل تحذيرى، أما الرئيس الفرنسى فقد أعلن حرباً مفتوحة وعلنية ضده.
ويظهر من تأييد الرئيس بوتين للاتفاق الأخير وتصريح الكرملين «أنه لا يوجد أى تصور لأى حل عسكرى، لذلك فإن الحل السياسى هو الحل الوحيد الممكن» أن موسكو ليست مع حماقات أردوغان فى شرق المتوسط، خاصة أنه يتعين مراعاة العلاقة الوثيقة بين الكنائس الأرثوذكسية فى اليونان وقبرص مع مثيلاتها فى روسيا.
أهم عنصر فى كل ما سبق هو ما كشفت عنه مصادر مطلعة أن ترامب قام شخصياً وعبر بومبيو، وعبر البنتاجون، وعبر قيادة القوات الأمريكية فى أفريقيا «أفريكوم» وعبر سفير بلاده فى ليبيا بضغط هائل لم يتوقف خلال 6 أسابيع من أجل إبلاغ رسالة للفريقين الليبيين «حفتر والسراج» مفادها صريح وواضح:
1- واشنطن منشغلة الآن وحتى نوفمبر كلياً وتماماً بالانتخابات الرئاسية.
2- لن يقبل الرئيس ترامب شخصياً ولا واشنطن كمؤسسات بأى تصعيد عسكرى فى شرق المتوسط أو فى ليبيا يمكن أن يؤثر سلباً على مسار الانتخابات الرئاسية.
3- ترى واشنطن أن أى أخبار يمكن أن تأتى من الشرق الأوسط فى تلك الفترة يجب أن تكون إيجابية مثل أحداث اختراق رئيسى فى الضغط على إيران، أو الإعلان عن تفاصيل مشجعة وإيجابية للاتفاق الإماراتى الإسرائيلى، مع احتمال انضمام قوى أخرى من المنطقة.
هنا يكون السؤال: هل تستجيب أنقرة والدوحة إلى الضغط الأمريكى؟ وهل تكون الاستجابة مؤقتة، أى بشكل مناور يهدف لشراء الوقت لحين معرفة من هو الرئيس الأمريكى المقبل؟
باختصار كيف يمكن الثقة فى قطر وتركيا، والتقارير تقول إنه عند كتابة هذه السطور وصلت دفعة جديدة فى مطار «الوطية» من المرتزقة السوريين بأسلحتهم إلى ليبيا؟؟