أثبت فلاديمير بوتين خلال سنوات حكمه الأخيرة أنه أكثر زعماء العالم الأول «حكمة وقوة ومهارة» فى تمكين بلاده من ممارسة القوة فى السياسة العالمية وإدارة الصراعات بـ«احتراف وحنكة شديدة».
استثمر «بوتين» 3 أمور أساسية فى تحقيق هذه المكانة:
1- انشغال الإدارات الأمريكية منذ عهد جورج بوش الابن فى ملفات مرهقة وارتكاب أخطاء تاريخية فى إدارة الصراعات العالمية.
منذ 11 سبتمبر 2001 انشغلت الإدارة الأمريكية بتبعات هذا الزلزال، ثم تورطت فى غزو العراق وأفغانستان، ثم جاء «أوباما» ليطبق سياسة انهزامية مرتبكة منكفئة على الداخل، ثم وصل «ترامب» كى يكون محور سياساته هو محو كافة سياسات «أوباما» فى الداخل والخارج من خلال سياسات حمقاء مرتبكة تقوم على الشعبوية وابتزاز الخصوم والحلفاء على حد سواء.
2- العنصر الثانى الذى اعتمد عليه «بوتين» هو اتباع سياسة إيجابية لديها القدرة على الانتقال السريع والعملياتى من القول إلى الفعل فى زمن غير مسبوق، مثلما قامت موسكو بالتحرك فى الملف السورى.
واتضح من سير السياسة الروسية فى الملفات القدرة على الحسم مثلما حدث فى أوكرانيا وجزيرة القرم وبيع منظومة الصواريخ إس 400 لتركيا، والحركة الواعية تجاه مصر والسودان والجزائر وليبيا ودول الخليج.
3- اعتمدت روسيا فى بناء سياساتها على عدة تحالفات منها تحالف دول الأوراس، والتنسيق الثلاثى مع أنقرة وطهران، والاتفاقيات الخاصة مع الصين وألمانيا وفرنسا ودول قمة العشرين.
هكذا استطاع ضابط الاستخبارات السابق، دارس القانون وعاشق الأدب، والرياضى الفذ، والرجل المتمكن من إجادة 6 لغات، أن يستثمر عناصر القوة التى توفرت له عالمياً وأن يصنع بمهارة واحترافية مكانة استثنائية تتعدى مقدار القوة الحقيقية التى تستحقها.
مثلاً أن تكون روسيا السابعة فى الإنفاق السنوى العسكرى عالمياً وتستطيع -رغم ذلك- أن تنافس الإنتاج العسكرى للولايات المتحدة وأوروبا والصين فى مبيعات السلاح وفى نوعية وكفاءة الأداء.
ها هى روسيا الاتحادية صاحبة مشروع تاريخى للصواريخ الباليستية، وصاحبة أكبر مخزون للغاز، ودولة صاحبة حق «الفيتو» فى مجلس الأمن، وإحدى أهم الدول فى الصناعات العسكرية والاحتياطات النقدية.
كل ما سبق تحليل منطقى لعناصر القوة الأساسية لروسيا اليوم، لكنه فى رأيى المتواضع لا يشكل عنصر القوة الأكثر تأثيراً لدى «بوتين».
هل تعرفون ما هو أكبر عناصر تفوق وتميز روسيا «بوتين» فى السنوات الأخيرة؟
إنه -فى رأيى المحدود- الأخطاء الجوهرية الفادحة التى وقعت فيها إدارتا «أوباما» الديمقراطية، والسنوات الثلاث الأولى لحكم «ترامب»، حتى إن مسئولاً روسياً رفيع المستوى قال مؤخراً فى حفل عشاء خاص: «نحن نعتمد أساساً على استثمار أخطاء ترامب فى العالم»!
لعل الجميع يلاحظ أن «بوتين» يستثمر أخطاء إدارة «ترامب» مع الصين ودول النافتا وحلف الأطلسى وأوروبا ودول الشرق الأوسط ودول الخليج العربى.
أخطاء «ترامب» هى عناصر قوة «بوتين» الآن.
«بوتين» ليس بحاجة إلى رسم سياسات جديدة لتحقيق مكانة لبلاده، يكفيه فقط أن يفعل عكس ما يفعل «ترامب» تجاه الأزمات والملفات العالمية.
إذا كانت سوريا هى نقطة نجاح لـ«بوتين» فهى أساساً نقطة فشل عظمى حينما فشل «أوباما» فى تنفيذ تهديده بالتدخل فى سوريا إذا ما استخدم النظام السلاح الكيماوى.
منذ أيام أنهى «بوتين» زيارتين ناجحتين تماماً للرياض وأبوظبى استطاع من خلالهما أن يدعم علاقاته الشخصية وعلاقات بلاده التاريخية بهما.
كان الاتحاد السوفيتى القديم أول دولة فى العالم الأوروبى تعترف بالمملكة العربية السعودية عام 1926 ثم تقيم معها علاقات دبلوماسية كاملة فى 1931.
وكانت «موسكو» من أول الدول الداعمة لقيام دولة الإمارات المتحدة عام 1971.
واليوم يصبح «بوتين» هو الزعيم الوحيد فى العالم تقريباً الذى يرتبط بعلاقات شخصية واقتصادية وأمنية مع جميع أضداد الشرق الأوسط: «إسرائيل، تركيا، إيران، مصر، السعودية، الإمارات» فى ذات الوقت، رغم تناقض وتضارب المواقف والمصالح الإقليمية والدولية لهذه القوى.
يثبت «بوتين» أنه عملى إلى أقصى حد، براجماتى إلى عنان السماء، فى الوقت الذى استطاع فيه «ترامب» ألا يخيف أعداءه ولا يطمئن حلفاءه.