لبنان على جسر الإفلاس المالى، وفى طريقه إلى مرحلة أخطر، وهى مرحلة اختطاف الدولة والنظام.
لبنان الذى كان منذ عام 1943 مشروعاً لسويسرا الشرق فى السياسة والنموذج الاقتصادى، الآن يتم تجهيزه بقوة لأن يصبح «إيران الشرق»، بمعنى سيطرة الدولة، والاقتصاد الموجه، والدولة الأمنية بامتياز.
ويمكن تفسير هجوم رئيس الوزراء اللبنانى المباشر على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، على أنه المرحلة الأولى من مشروع الاستيلاء على السلطة النقدية كخطوة أولى للاستيلاء على السلطة ككل، لتنفيذ مشروع الدولة المسيطرة على البلاد والعباد.
حكومة الدكتور حسان دياب جاءت بأهداف معلنة، وأخرى مخفية.
الأهداف العلنية، مذاعة ومكررة، ومعروفة، أما المخفية فهى تتلخص فى هدف رئيسى هو إحكام القبضة على البلاد لصالح محور عون، حزب الله، سوريا، فى مواجهة الآخرين بحلفائهم الإقليميين.
وحتى يتحقق ذلك مطلوب 4 أهداف رئيسية:
1 - التخلص من حاكم مصرف لبنان لتطويع السلطة النقدية المستقلة بحكم الدستور لسيطرة الحكم والحكومة.
2 - التخلص من قائد الجيش جوزيف عون الذى لديه شعبية فى مؤسسة الجيش وفى الشارع الشعبى اللبنانى، وذلك بهدف أن يتم تطويع قيادة الجيش لرئاسة الجمهورية، ويعود الفرع إلى الأصل، بمعنى أن تضاف قيادة الجيش إلى نفوذ الرئيس الذى كان يشغل منصب قائد الجيش سابقاً.
المشروع بسيط للغاية «أمسك بالمصرف المركزى، وقيادة الجيش» تمهيداً لتحقيق الآتى:
1 - ضرب سمعة ومكانة قوى المعارضة السياسية الحالية: جعجع - الحريرى - جنبلاط، بمعنى كل القوى الخارجة عن الحكومة الحالية.
2 - فتح ملف قضائى وسلسلة تحقيقات مع هذه القوى وكأن الفساد الإدارى والاستيلاء على المال العام كان قاصراً على هؤلاء.
3 - إيجاد حلول مالية فيها مزيج من التربح من عمليات سعر التحويل من أسعار العملة والاستيلاء على أموال بعض الشخصيات العامة والضغط على أموال «بعض» وليس كل المصارف.
ما سيحدث هو نوع من لعبة «عدالة انتقائية» يتم فيها الثأر من كل القوى التى عارضت محور «إيران، سوريا» وحلفائهم المحليين.
باختصار مطلوب لبنان جديد، بمعادلة حكم وتوازنات خارج دستور 1943، وخارج نظام الطوائف، وخارج نظام اتفاق الطائف.
منطق الحريات السياسية المفتوحة، والاقتصاد الحر، والسلطة النقدية المستقلة، والجيش الوطنى غير المسيس، مطلوب أن يتغير تماماً.
ويخطئ من يعتقد أن هذه العملية هى مجرد نزهة فى حديقة سياسية، بل هى معركة تكسير عظام مؤلمة قد تصل إلى صراع دموى يستخدم فيه سلاح فى شوارع قد تعج بالفوضى والجرائم الاجتماعية بسبب الحرمان والجوع والبطالة والشعور بالظلم الضاغط والمستمر الذى يفوق قدرة البشر على الاستمرار فى تحمله.
معارك الحكومة تتجه لحاكم مصرف لبنان بدلاً من إنشاء هيئة ناظمة للكهرباء التى تسببت فى عجز متراكم بسبب 43٪ من العجز العام على مدار السنين، حيث إنه يكلف الموازنة العامة 2٫5 مليار دولار سنوياً.
لبنان الحالى لا يفتح ملف النزوح الذى كلفه حتى العام الماضى 21 مليار دولار (على الأقل).
لبنان الحالى لا يتحدث عن خروج ودائع سورية منه تقدر بما لا يقل عن 7 مليارات دولار منذ أكتوبر الماضى.
ما يتم الإعداد له الآن يبدو للوهلة الأولى:
محاولة مواجهة وتطهير للفساد (وجهة نظر الحكومة) ويبدو للوهلة الأولى (مؤامرة تسييس وثأر متعمد لتكسير عظام المعارضين) من وجهة نظر المعارضة.
جبران باسيل، زعيم التيار العونى الحر، هو المهندس الحقيقى لما يحدث الآن بعد إجراءات تنفيذية ضاغطة لتكسير عظام معارضيه تحت حماية شعارات شعبوية تتلامس مع ذات مطالب المتظاهرين فى شوارع وميادين لبنان.
الإجراءات التى سيبدأ التحضير لها من الأسبوع المقبل هى قوانين لاستعادة الأموال المنهوبة والموهوبة، وإنشاء محكمة مالية لمحاكمة الفساد، ورفع الحصانة عن السرية المصرفية، ونأتى إلى أخطر مشروع قانون يعدله، وهو: الكشف عن الحسابات والأملاك.
فى الوقت ذاته يُعد لمشروع يطالب كلاً من كبار رجال الدولة الحاليين والسابقين بمختلف درجاتهم من الذين قاموا منذ أكتوبر الماضى بتحويل أكثر من 50 ألف دولار أمريكى للخارج، بإعادة هذه الأموال مرة أخرى إلى البنوك اللبنانية.
كل ذلك يهدف إلى إضعاف مكانة وسمعة ومصداقية حاكم المصرف وجهازه الإدارى تحت دعوى أن الرجل تصرف بنفسه منفرداً فى سياسات عامة بعيداً عن الحكومة.
باختصار، المطلوب وضع المصرف وحاكمه تحت سيطرة الحكومة.
لبنان الحالى لم يجرؤ أحد فيه على أن يناقش أثر التلاعب فى سعر الدولار والليرة الآتى من مضاربات قوى سياسية داخلية فى سعر العملة، وفى تأثير عمليات نزيف التهريب المستمر للعملة من وإلى سوريا.
لبنان السعيد، الحزب الموحد، المستقل، هو مشروع يحتضر، وهو يتآكل بقوة نحو الانضمام ليصبح ملحقاً بنموذج كل من إيران وسوريا.
هل نقرأ الفاتحة على لبنان السيد الحر الموحد المستقل؟ هل نحن أمام تحول هذا البلد من مشروع سويسرا الشرق إلى إيران الشرق؟
الإجابة عند المعسكر المضاد لهذا المشروع والتساؤل هو إلى أى حد يستطيع أن يصمد ويقاوم هذا الهجوم الآتى؟
قال الأستاذ نهاد المشنوق، النائب السنى الحالى، ووزير الداخلية الأسبق: «إحنا قدها وقدود»، وغرد دولة الرئيس سعد الحريرى معقباً على خطاب رئيس الحكومة حسان دياب، واصفاً ما يحدث: «إنها مرحلة الانتقام من مرحلة كاملة يفتحونها على مصراعيها ويكلفون رئاسة الحكومة تولى مرحلة الهجوم».
رغم كلام مماثل لجعجع وجنبلاط يضاف لكلام السنيورة والحريرى والمشنوق، يبقى السؤال: هل هؤلاء يدركون أن المواجهة هذه المرة قد تنتقل من حالة تكسير أرقام الاقتصاد إلى تكسير عظام الساسة إلى حرب دموية فى الشوارع؟
باختصار شديد: الحرب الأهلية لم تنتهِ بعد!