عشت حياتى أؤمن بأن كل قضية قابلة للنقاش وكل إنسان قابل للجدل أو المساءلة، حتى لو كان الأستاذ عمرو موسى!
الدبلوماسى المخضرم، والسياسى البارع، بالنسبة لى له احترام فى النفس ومكانة فى القلب، لكن حينما يكون هناك «اختلاف فى الرأى»، فيجب ألا تقف المحبة عائقاً أمام إبداء الرأى، والتجرؤ على مناقشة «أستاذى».
سبب كلامى هذا هو ما جاء فى مقابلة الأستاذ عمرو موسى، مع الأستاذ عمرو أديب منذ أيام فى برنامجه المتميز «الحكاية».
جاء فى الحوار جزء خاص حول رؤية الأستاذ عمرو موسى حول: طبيعة الدور التركى فى المنطقة، وكيفية التعامل معه، وتفسير سياسات «أردوغان» فى أماكن التوتر الحالية.
ولقد أثارتنى للغاية رؤية الأستاذ للدور التركى وشخصية «أردوغان»، التى تعطى -للوهلة الأولى- تبريراً لما يفعل، وتفسيراً منطقياً لمغامراته العسكرية، ولوماً خفياً، لأننا (أى معسكر الاعتدال)، لم نفهمه بالقدر الكافى، الذى يجب أن يؤدى إلى استيعابه!
فجأة القاتل هو القتيل، وأصبح المتهور هو العاقل، وتحول الفاعل إلى مفعول به!
تعالوا نناقش ما تفضل به الأستاذ عمرو موسى فى تلك المقابلة:
خلط الأستاذ عمرو موسى بين أهمية دور تركيا كموقع حاكم واستراتيجى، وقوة اقتصادية، وقدرة عسكرية، وأهمية تاريخية ودور إقليمى، وتأثير إسلامى، وعلاقات دولية، وبين رفض المنطقة غطرسة القوة لدى أردوغان.
تركيا الدور والتاريخ ليست -بالتأكيد- تركيا التهديد والمغامرات والتدخل فى شئون الغير، التى نعانى منها هذه الأيام.
تركيا ليست حزب العدالة والتنمية فقط.
وحزب العدالة والتنمية ليس وحده الحكم والحكومة.
والحكومة ليست الرئيس رجب طيب أردوغان وحده دون سواه.
تركيا ذات الـ 79 مليوناً، وذات الموقع الحاكم فى مضايق البوسفور والدردنيل، وصاحبة القوة الاقتصادية الصاعدة، وصاحبة ثانى أكبر قوة برية فى حلف الناتو، وذات التاريخ المشترك فى المنطقة لمدة 400 عام من الخلافة العثمانية، هى بلا شك دولة، وشعب، ودور لا يمكن إلغاؤه ولا تجاهله، ولكن أيضاً لا يمكن القبول بابتزازه وغطرسته إذا تولى مقاليد الحكم فيه حاكم مصاب بخلل فى الإدراك، وتطرف دينى وصل إلى العنف والتوسع والامتداد العسكرى.
هذه هى تركيا المفيدة، أما تركيا المضرة السلبية، فهى «تركيا أردوغان» التى تتبع سياسات شريرة تهدد الأمن القومى للمنطقة عبر سياسات الابتزاز السياسى، والقرصنة البحرية، والاستيلاء على ثروات الغير، والتدخل فى شئون دول المنطقة.
يطالبنا -ضمناً- الأستاذ عمرو موسى بالتفاهم وبعدم تجاهل الدور التركى. وهنا نسأل عقل وضمير الدبلوماسى العربى المخضرم:
1 - ألم يكن «أردوغان» هو الذى قام بالهجوم على مصر ورئيسها وجيشها عقب ثورة 2013، التى كان الأستاذ عمرو -شخصياً- طرفاً مؤيداً بقوة لها؟
2 - ألم يختر «أردوغان» جماعة الإخوان وتنظيمها الدولى وفضّلهما على علاقاته بمصر والسعودية والإمارات؟
3 - ألم يفضل «أردوغان» دعم قطر والوقوف بقوة خلفها فى خلافها مع دول التحالف العربى، ضارباً عرض الحائط بمصالح بلاده بهذه الدول؟
4 - ألم يرسل «أردوغان» قوات النخبة التركية إلى الدوحة لحمايتها، ولتصبح قوة أمن النظام؟
5 - ألم يبنِ «أردوغان» قواعد فى سوريا والعراق وجيبوتى والصومال، وكان يسعى لقاعدة فى سواكن بالسودان، وأخرى فى طرابلس من أجل محاصرة قوى الاعتدال فى المنطقة؟
6 - ألم يشكل «أردوغان» محوراً مع إيران للتنسيق الأمنى فى المنطقة؟
7 - ألم يتحول الجيش التركى القوى من قوة دعم للمنطقة إلى قوة تدخل واحتلال فى كركوك والموصل وإدلب وطرابلس والدوحة وجيبوتى؟
8 - ألم يسعَ «أردوغان» إلى دعم إثيوبيا فى تشددها الأحمق فى ملف سد النهضة؟
9 - ألم تقم أدوات التسويق السياسى التركية فى الولايات المتحدة وأوروبا بتشويه صور زعامات السعودية ومصر والإمارات وسعت للاغتيال المعنوى لزعامات هذه الدول؟
10 - ألم تقم تركيا بابتزاز السعودية بملف تصعيد أو تهدئة قضية اغتيال الزميل جمال خاشقجى رحمه الله، من أجل صفقة مالية مشبوهة؟
11 - ألم تسعَ تركيا إلى احتضان التنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين، وتوفير كل أشكال الدعم له؟
12 - ألم تقم تركيا بنقل وتسليح 6 آلاف إرهابى تكفيرى من سوريا إلى ليبيا، بما فيه من تهديد مباشر للأمن القومى المصرى؟
13 - ألم يسمع الأستاذ عمرو موسى محاضرة «أردوغان» الشهيرة فى حزبه الحاكم عام 2001 التى أعلن فيها رؤيته لـ«تركيا الكبرى» التى تستعيد فيها نفوذها على الولايات العثمانية السابقة؟ ألم يسمع الأستاذ عمرو موسى عن إحياء ذكرى إعدام الأستاذ سيد قطب بواسطة أقطاى المساعد الأول لـ«أردوغان»، ومطالبته بعودة وإحياء «الفكرى القطبى لإحياء الإسلام السياسى»؟
إننا أمام ظاهرة تمارس الابتزاز السياسى بأسوأ الوسائل والأدوات، فهو يبتز الأكراد فى العراق بحصة فى النفط، ويبتز الحكم فى دمشق بقطعة من «إدلب»، ويبتز اليونان وقبرص ومصر وسوريا ولبنان وإسرائيل بحصة من مخزون غاز شرق المتوسط، ويبتز أوروبا بفتح أبواب الحدود أمام اللاجئين، ويبتز حلف الناتو بتعطيل قاعدة أنجرليك، ويبتز «ترامب» بصواريخ «إس 400»، ويبتز الروس بصواريخ «باتريوت»!
نتفق مع الأستاذ عمرو فى سعيه الدائم إلى تحسين الأداء العربى فى ملفات المنطقة.
وأحب أن أعيد على الأستاذ عمرو تصريحاً علنياً مصوراً لـ«أردوغان» عام 2011، قال فيه بالحرف أمام أنصار حزبه: «بقدر ما انتصرت إسطنبول، انتصرت سراييفو، وبقدر ما انتصرت إزمير انتصرت بيروت، وبقدر ما انتصرت أنقرة انتصرت دمشق».
ولا يخفى على الأستاذ عمرو موسى أن «أردوغان» أعاد شعار الدولة العثمانية كشعار رسمى للدولة.
ولا يخفى عليه أيضاً أن الرجل تعرّض للسجن عام 1998 بتهمة «الكراهية الدينية واعتبار أنصاره جيشاً مقدساً يحرس الدين».
ولا يخفى عن الأستاذ عمرو موسى أن الرجل أعاد العمارة العثمانية، والزى العسكرى العثمانى، وقرر عمل احتفال عظيم بنهاية اتفاقية «لوزان» بعد مرور مائة عام عليها عام 2023، والتى سوف يسعى بعدها للحديث عن استعادة أراضى وأملاك الدولة العثمانية.
هذا ما قاله «أردوغان» نفسه، وهذا ما فعله من أجل مشروع «تركيا الكبرى» القائمة على «العثمانيين الجدد»!
هذه المرة كان يجب أن يوجه الأستاذ عمرو موسى إصبعه الشهير نحو حماقات «أردوغان»، لذلك نسأل «معلم الدبلوماسية العربية»: هل يجوز الرضوخ لمبدأ ابتزاز العالم العربى بالقوة؟
لسنا ضد تركيا، فهى ليست خطيرة كما وصفها الأستاذ عمرو، لكن الخطورة ليست فى الدور التركى، وإنما فى النظام الذى يقوده رجل مصاب بغطرسة القوة وعشق احتراف الابتزاز السياسى لدول المنطقة والعالم.
أقول قولى هذا، مع شديد احترامى لأستاذى العزيز عمرو بك موسى.