سوف يكتشف بعض البشر بعد نهاية موضوع الكورونا أن كثيراً من المسلمات التى كان يتعامل بها فى أسلوب حياته، تحتاج إلى إعادة نظر شاملة بشكل جذرى وعميق.
كنا نأكل، ونشرب، ونجلس على المقاهى، ونذهب إلى دور السينما، ونسافر فى المصايف البحرية، ويقضى بعضنا إجازته الفصلية والسنوية فى مشافى ومصايف أوروبا والولايات المتحدة، كنا نفعل كل ذلك بشكل تقليدى روتينى، وكأنه تحصيل حاصل، لأسلوب حياة اعتيادى، بل إن بعضنا كان يعتبره مكرراً، مملاً، لا توجد فيه إثارة أو تجديد!
كنا قبل الكورونا، نعتقد أن الصحة أمر مسلم به، وأن الكشف الدورى الطبى الذى يثبت خلونا من الأمراض، نحن ومَن نحب، هو خير وثيقة ضمان أننا بخير.
كنا نعتقد أننا إذا لم نشك من شىء، فنحن فى أتم صحة وعافية.
كنا نشكو من كثرة الالتزامات الاجتماعية والمجاملات، والزيارات والمعارض والندوات والمؤتمرات، والأفراح، ومشاطرة العزاء على أنها همٌّ ثقيل نود أن يخلصنا الله منه.
كنا نشكو زحام الشوارع، والميادين، والمقاهى والمساجد، والكنائس، ومحطات الأوتوبيس والمترو والقطارات والمطارات.
فجأة ودون سابق إنذار، اكتشفنا بما لا يدع مجالاً للشك، أننا حينما حُرمنا من كل ذلك، كم كانت كل هذه الأشياء والأفعال والمناسبات والأحداث رائعة وجميلة.
فجأة افتقدنا الزحام، والناس، والخروج والضوضاء، وتوتر الحياة، وكثرة المواعيد، وقائمة الواجبات الاجتماعية التى لا تنتهى.
فجأة عرفنا قيمة كل ما كنا نتذمر ونتأذى منه، ونلعن وجوده فى حياتنا.
فجأة أصبحت تفاصيل الحياة ذات قيمة وذات معنى ومغزى.
وفجأة أصبح وجود «الآخر» فى حياتنا حتى لو كان سخيفاً، مزعجاً، شيئاً نفتقده بشدة مهما كان الثمن.
إن شعور الإنسان بفقدان «حق الاختيار»، وضرورة الالتزام بالقرارات الجبرية المقيدة لحريته الخاصة والعامة هو قمة اللوعة والألم لإنسان اليوم.
فجأة حينما أصبحنا أسرى منازلنا، معتقلين داخل غرفنا، ممنوعين من مخالطة الآخر، أى آخر، خوفاً منه علينا، وخوفاً عليه منا، أصبح «هو» له معنى، وأصبح الواحد منا له قيمة عنده! يا أيها الإنسان كم أنت غريب عجيب بداخلك حجم لا نهائى من الكبر والافتراء والطغيان، والجشع بحيث لا تعرف قيمة أى شىء إلا إذا هُددت بشكل فعلى وعملى بالحرمان منه.
أصبحت للحرية قيمة، وللحركة متعة، ولحق السفر والانتقال سعادة، وللاندماج مع الآخر شغف ومحبة.
الشعور بفقدان الاختيار، مقابل أن تصبح مجبراً بقوة القانون وبخطورة الوباء يذكرنا بقول فيثاغورس: «ليس هناك من شىء سهل إلا وصعب عندما تقوم به مجبراً»!
سؤال المليار دولار، الذى لا يملك عالم واحد الآن الإجابة الحاسمة عنه هو: هل بعد انتهاء أزمة هذا الوباء، سنعيد النظر داخل نفوسنا ونفتش فى عقولنا ونطهر أرواحنا بحيث نتعامل مع النفس والغير والكون بشكل مختلف، أم كما جرت العادة سوف يغلب الطبع التطبع وتعود الأخت «ريما» إلى عادتها القديمة؟؟
ذلك كله يذكّرنا ببيت شعر عظيم للشاعر المبدع صلاح عبدالصبور -رحمه الله- حينما وصف إنسان العصر: يالا الإنسان الورقة.. من أول نفخة سقطت!