من أكبر أزمات أى حاكم فى أى زمان ومكان أنه خير من يعرف أى شىء حول كل الأشياء، هو صاحب الحل لكل المشاكل، المتمكن تماماً من إيجاد الإجابة الشافية حول كل الأسئلة، يمتلك الشفرة السحرية لكل ألغاز الكون!
بالتأكيد لم يُخلق بعد مثل هذا المخلوق «السوبر مان» الذى يمتلك الامتياز الحصرى للصواب المطلق!
ولكن..
للأسف الشديد، ويا لهول المأساة، فإن رئيس أكبر وأقوى دولة فى العالم، فخامة الرئيس دونالد ترامب، يعتقد فى نفسه أنه يمتلك هذا الصواب الدائم، المطلق، وحده دون سواه!
آخر تجليات هذه «الحالة» المسيطرة على العقل الافتراضى للرئيس الأمريكى هو تصريحه الذى قلب الدنيا رأساً على عقب، الذى قال فيه أمام كاميرات العالم: «أرى أن المعقمات تقضى على الفيروس -يقصد كورونا- فى دقيقة -نعم دقيقة واحدة- إذاً هل من طريقة لحقنة منه فى الجسم؟».
وأضاف «ترامب»: «وكما تعرفون أن الفيروس يدخل الرئتين ويكون له أثر هائل، وقد يكون مفيداً التحقق من ذلك، ويجب الاستعانة بأطباء لذلك، إنه أمر يثير الاهتمام».
ويبدو أن «ترامب» استخدم المنطق البدائى غير العلمى القائم على فرضية ساذجة أنه إذا كان تدليك اليد بالمعقم يقتل الفيروس فلماذا لا نضعه فى حقنة ونستخدمه!
ما قاله الرئيس ترامب لم يدعمه أى مركز أبحاث محترم، ولا أى جهة طبية، ولم يتجرأ عليه حتى أى «عطار مشكوك فى خبرته» على أى موقع مشبوه من مواقع شبكة الإنترنت!!
شركة ريكيت بينكيرز، صاحبة أشهر معقم طبى «ديتول» و«ليسول» فى أسواق المعقمات، نفسها، أصدرت بياناً صريحاً تحذر فيه بشكل واضح من قيام أى إنسان بتناول معقم «الديتول» لأى سبب من الأسباب من خلال الحقن، وتنفى أن شرب أو حقن «الديتول» يشفى من وباء الكورونا.
فى الوقت ذاته حاول المكتب الإعلامى للبيت الأبيض إنقاذ ما يمكن إنقاذه من آثار هذا التصريح ببيان جاء فيه: «إن الرئيس ينصح دائماً الشعب الأمريكى باللجوء إلى الأطباء المتخصصين، وإن وسائل الإعلام المغرضة قامت بتحريف تصريحات الرئيس وإخراجها عن محتواها ومقصدها»!
لا يمكن أن يكون «ترامب» خبير صواريخ باليستية، وتاجراً، ومصرفياً، ومضارباً فى البورصة، ومقاول عقار، وخبير مصارعة حرة، ومحاوراً تليفزيونياً، ومنظم بطولة ملكات جمال، ومتخصصاً فى القانون الدستورى والجنائى، وخبير علاقات دولية، ومتخصصاً فى نظام الحكم الفيدرالى الأمريكى، ومهندس طيران، ومصمم سيارات، ومتذوق طعام، وخبير أناقة وأزياء، كل ذلك بإجادة تامة وعلم مطلق فى آن واحد!
انتبه الآباء المؤسسون للنظام الدستورى الأمريكى بتدعيم سلطات الرئيس بخمسة آلاف موظف ومستشار إدارى يختارهم فور إعلان فوزه بمقعد الرئاسة بهدف حكيم وجوهرى هو تحصين القرار الرئاسى من الفردية والذاتية المضرة المؤدية للخطأ والكوارث.
هذا الأمر مهم لأى حاكم، ويزداد أهمية وخطورة للرجل الذى يملك حق الضغط على زر إطلاق القنبلة النووية والذى يدير أكبر اقتصاد فى العالم.
الحكم الرشيد يقوم على المشورة والعلم وحوار المستشارين وتوازن السلطات ومراكز البحث والتفكير التى تستقرئ المستقبل وتعد البدائل والخيارات والأولويات أمام صانع القرار، وهو الأمر الذى يتبعه «ترامب»!
وما لا شك فيه أن الرئيس الأمريكى فى نهاية الأمر هو المسئول الأول والأخير عن قراره أمام باقى السلطات وأمام شعبه والعالم، ولكن قبل أن يصدر هذا القرار بشكل فردى انطباعى خطر يسىء للبلاد والعباد ويسىء لشخص ومكانة الرئيس، لا بد من الدراسة المتأنية «قبل» وليس «بعد» إصدار القرار.
أزمة «ترامب» أنه رجل خارج السيطرة، يفعل ما يراه بالطريقة التى تروق له، وفى التوقيت الذى يناسبه، وليذهب أى شىء إلى الجحيم!