سفينة الاقتصاد اللبنانى مصيرها مثل مصير سفينة «تيتانك» الشهيرة وهى تكاد تصطدم بجبال الثلج وسط المحيط.
يعانى لبنان من خلل مخيف تراكم تاريخياً منذ عام 1943 حتى تاريخه، أوصل هذا البلد إلى أن تكون حصة المواطن اللبنانى من الدين العام من أعلى المعدلات فى العالم أجمع.
هذا الخلل فى اقتصاد البلاد أدى إلى وصول الدين العام الخارجى للبلاد 91 مليار دولار (إحصاء 2019) وتمثل السندات الحكومية 94٪ من هذا الدين.
السؤال الجوهرى المطروح للنقاش بقوة فى لبنان الآن هو: من الذى يمكن أن يدفع ثمن «كارثة الاقتصاد اللبنانى».. الدولة؟ أم المصارف؟ أم المودع؟
صراع المصالح الآن مخيف وقاسٍ ودموى بين النخبة الحاكمة وأصحاب المصارف وجماهير المودعين، كل يحاول ألا يكون «كبش الفداء» للخروج من هذا الوضع الكارثى.
الأرقام المجردة لا تحتاج إلى خبير لمعرفة حجم خطورة الوضع الاقتصادى فى البلاد والضاغط بجنون على العباد.
حالة لبنان الآن سببها أن كل من حكمه فكّر فى مصلحته الذاتية قبل أى مصلحة عامة.
وأذكر أن السياسى البارز النزيه «ريمون إده» قال لى قبل أن يتوفى فى المستشفى: اختيارى منذ عام 1976 البحث عن لبنان ذى هوى لبنانى وليس ذا هوى إيرانى أو فرنسى أو أمريكى أو سورى أو خليجى!!
لبنان المطلوب له عمل «هيركات» أو حلاقة مالية، مساحته 10542 كيلومتراً، تعداد سكانه الآن 4٫5 مليون نسمة (تقريباً) يعيش فيه قرابة 2 مليون لاجئ ونازح فلسطينى وسورى وعراقى ويمنى وليبى، إجمالى ديونه 85 مليار دولار (تقريباً)، متوسط دخل الفرد فيه 15٫557 ألف دولار للفرد سنوياً، ويحتل الترتيب رقم 57 فى قائمة مداخيل الفرد، وهذا الترتيب كان منذ 3 سنوات، ويُعتقد أنه انخفض بعد تدهور قيمة العملة المحلية مقابل الدولار بنسبة الثلثين على الأقل.
هذا اللبنان غير قادر على أن يحصل على ثقة المانحين الذين وفروا له 12 مليار دولار منذ عامين، ولا قادر على تأمين مساعدات من الهيئات المالية الدولية، ولا من دول الخليج العربى، ولا الكونجرس الأمريكى ولا الأم الحنون فرنسا، ولا الاتحاد الأوروبى بعدما أصبح الجميع ضحية الفاتورة الباهظة المفاجئة لتعويض آثار فيروس كورونا، بحيث أصبح الجميع يضع الأولوية المطلقة لنفسه وحده دون سواه.
هذا اللبنان يفتقر إلى المواد الأولية، وإلى الطاقة، وإلى توفير المياه رغم أنهاره وأمطاره وإلى القدرة على توفير الكهرباء 24 ساعة يومياً، والتى تكلف الخزينة أكثر من 2 مليار دولار تذهب لأصحاب المصالح الفاسدة.
هذا اللبنان ليس قوة واحدة ذات أغلبية نافذة، لكن فيه 18 طائفة أخرى قادرة على تعطيل الآخر، مما يصل دائماً بالبلاد سياسياً إلى حالة من الجمود!
لبنان اليوم لا ثقة فيه لدى المؤسسات الدولية بعدما انخفض تصنيفه الائتمانى من هيئة «موديز» العالمية إلى 4 درجات أقل فى العامين الماضيين.
الكساد فى لبنان سببه الفساد!
العجز العام فى الموازنة سببه قيام ساسة لبنان بالنهب المنظم للمال العام!
صراع المحاصصة فى لبنان حقيقته المؤلمة -بلا تجميل- هى صراع على حصص الساسة فى نهب المال العام والمشروعات العامة وتوزير كل طرف لرجاله والصراع على التعيينات الإدارية لأهم مناصب الدولة من أجل «شفط» خزائن ومداخيل هذه الجهات.
بعدما وصل النهب المستمر إلى مرحلة لم يعد فيها ما يمكن نهبه، وبعدما كفر الناس بكل النخبة الحاكمة جديدهم وقديمهم، الحالى منهم والسابق، المسلم منهم والمسيحى، السنى منهم والدرزى، الأمريكى منهم والإيرانى، الفرنسى منهم والسورى، الحزبى منهم والمستقل، كلهم -من وجهة نظر الشعب الثائر- فاقد الأهلية لا ثقة فيه مهما فعل.
بانتظار «الهيركات» يصبح السؤال: من سوف يحلق لمن؟
وتزداد الأزمة تعقيداً لعدة أسباب مركبة معقدة للغاية:
1- توقف كامل للنشاط الاقتصادى والمالى إلى حد الاحتضار منذ 2 أكتوبر الماضى مما عمل على وصول المصارف إلى وضع سلبى بما يساوى عشرة مليارات دولار.
2- وصول حكومة جديدة، مرفوضة من الشارع الثائر، مهما فعلت ومهما جاءت بخبرات، مما يخلق حالة عدم ثقة.
3- وجود أزمة فى علاقة لبنان بالدول الداعمة: دول الخليج توقفت عن دعم حلفائها، وإيران تعانى من عقوبات جعلتها غير قادرة على دعم حلفائها من التيار الشيعى السياسى، وسوريا متورطة ومنكفئة على الداخل مما يجعل دورها محدوداً داخل اللعبة اللبنانية، وأوروبا وعلى رأسها فرنسا محاصرة بالوضع الاقتصادى الداخلى المزرى منذ عام ونصف والفشل الذريع فى التعامل مع الكورونا.
حالة لبنان الآن تعانى من كوارث مركبة: الحكومة بلا ثقة، والمصارف متعثرة، والأموال مجمَّدة، والإنفاق العام تحت ضغط المطالب الاجتماعية، والقوى الداعمة إقليمياً مأزومة بشدة، والعالم لديه مليون قضية آخرها لبنان.
ذلك كله يجعل الإنسان اللبنانى الصبور المفلس رغماً عنه الجائع مرغماً غير القادر على العمل بسبب الأزمة والحظر، غير القادر على تحصيل أمواله من البنوك، السجين فى بيته بسبب حظر الكورونا، المضغوط نفسياً بسبب الخوف من الموت من الجوع أو الموت من الوباء «قنبلة موقوتة تنتظر لحظة الانفجار» المدوى.
الكبار فى لبنان يريدون أن يدفع الصغار -كالعادة- مرة عاشرة ثمن سرقات النخبة السياسية فيحدث ما يسمى «الهيركات» أى اقتطاع حصة من ودائع الناس فى البنوك، تلك الودائع التى وضعوها على مر السنين كمظلة واقية لهم عند الحاجة أو كضمان لأبنائهم من بعدهم، وبعدما فقدت العملة الوطنية قيمتها من 1550 ليرة مقابل الدولار إلى 2700 للدولار مما فرض حالة من الغلاء الشديد على أسعار السلع والخدمات!
المصارف وأصحابها يعتبرون أنهم لا يجب أن يدفعوا ثمن الأزمة مرتين. مرة حينما يطلب منهم دفع حصة من أرباحهم المتراكمة على مر السنين للاقتصاد الوطنى والمرة الثانية حدثت بالفعل حينما كانوا يوردون «سمسرات» مالية للنخب الحاكمة والقوى النافذة من أجل التغطية السياسية على أرباحهم الفاحشة!
أما الحكومة فإن الإنسان يشفق بالفعل على رئيسها الذى يحاول ليل نهار تجربة «إحياء الموتى» فى جسد الاقتصاد اللبنانى فى ظل جمهور فاقد الثقة، ومؤسسات معطلة، ووباء مُستشرٍ، ومحيط مضطرب، وعالم مأزوم.
لذلك أصبح الوضع أكبر من أى رئيس حكومة وأخطر من أى أزمة سابقة!
إنها وصفة لا نهائية لسوء الحظ عابرة لخيال وإبداع أعظم الكتّاب فى تخيلها وتوقع أن تجتمع عناصرها وخيوطها فى ملف واحد، وزمن واحد، ليواجهها بلد واحد!
السؤال الآن، وهو سؤال مؤلم للغاية، ليس «هل» تصطدم «التيتانك» اللبنانية بجبل الاقتصاد المنهار، ولكن متى تصطدم؟
السؤال ليس «هل» ولكن «متى»؟!