نحن لا نعرف مبدأ التفاوض بين القوى المختلفة أو المتصارعة حول حق أو رأى أو مكاسب أو سلطات.
نحن نعرف - فقط - فى عالمنا العربى مبدأ الفائز الكامل مقابل الخاسر الكامل.
آخذ أنا كل شىء، وأنت لا تأخذ أى شىء.
نحن لا نعرف مبدأ قامت عليه العقلية «الأنجلوساكسونية» وحضارة كاملة لدول الديمقراطيات الصناعية وهى «تعال نتحاور حتى الجميع يكسب».
التفاوض هو علم يقوم على حوار له إطار نظرى وأهداف مادية بين طرفين أو أكثر يتصارعون حول مصالح أو أفكار مضادة يسعون من خلال تلك التجربة للتوصل إلى حل مُرضٍ أو مناسب.
وفى معظم الأحيان تكون محصلة التفاوض هى «حل وسط» بين مصالح المتفاوضين.
يقبل كل طرف الحل الوسط، لأنه يدرك من اللحظة الأولى لجلوسه على مائدة التفاوض أن خسائره فى حال عدم وجود تفاوض أكبر بكثير من أى حل وسط سيقدمه فى التفاوض.
يفشل التفاوض السياسى كثيراً إذا كان بين أصحاب أيديولوجيات جامدة متحجرة، وينجح كثيراً فى الشئون المادية والتجارية، حيث يعرف المتفاوضون - أساساً - لغة المصالح والمكاسب والسعى لتجنب الخسائر أو مبدأ تخفيف الخسائر والأضرار.
واكتشف العالم العربى بعد رحيل القائد العظيم أنور السادات أن تفاوضه مع إسرائيل كان فيه حكمة بالغة ومصالح عليا لبلاده وللقضية الفلسطينية، وأن الرفض المطلق من قبل العالم العربى لهذا التفاوض عاد عليه بخسائر عظمى، وأضاع سلسلة من الفرص التاريخية لم نستطع حتى الآن الحصول على 60٪ منها لاستعادة الأراضى المحتلة من قبل إسرائيل.
كنا وما زال بعضنا يؤمن بنظرية «كل شىء أو لا شىء».
وبعضنا ما زال يقول «لن نتفاوض قبل أن تعترف إسرائيل بأحقيتنا فى القدس وكافة الأراضى الفلسطينية من البحر إلى النهر، وإعادة كل اللاجئين بالتعويض عن سنوات الاحتلال».
حسنٌ، إذا كان هذا هو المطلوب من هؤلاء، فما هى مصلحة إسرائيل التى تحتل الأرض فى الدخول فى أى مفاوضات من الأساس.
هؤلاء أيضاً يتجاهلون المبدأ الحاكم فى أى مفاوضات، وهو أن نتيجتها تعتمد أساساً على «حجم قوة كل طرف» لحظة دخوله المفاوضات.
فى حالتنا نحن، ما هو حجم الناتج القومى، والإنفاق على الأبحاث، ومستوى التعليم، وميزان التسليح، وموازنة الدفاع، وشبكة العلاقات الدولية، والمكانة والتحالفات العالمية عندنا وعند إسرائيل.
ميزان القوى خارج غرفة المفاوضات يترجم نفسه فعلياً وعملياً على مائدة المفاوضات.
المفاوض مهما كانت مهارته له مساحة محدودة ومحددة.
أسوأ أنواع التفاوض فى عالمنا العربى هو مفاوضات القوى الشعبية والنخبة من ناحية والدولة والسلطة من ناحية أخرى.
وتلك قضية سوف نناقشها غداً بإذن الله.