ما مصلحة تركيا الحقيقية فى الدخول إلى مغامرة الصراع الليبى، ودفع فاتورة باهظة للغاية داخلياً وإقليمياً ودولياً؟
للوهلة الأولى يبدو الأمر «فصلاً مسرحياً» من رواية سريالية لمؤلف مجنون اسمه رجب طيب أردوغان!
التأمل العميق فى الوقائع، والغوص فى الملفات، واحتساب كشف الأرباح والخسائر الشخصى للرجل، ولحزبه، ولخزانة بلاده التى تعانى من التدهور فى العملة الوطنية، يمكن أن يساعد فى فهم الموقف التركى، دون تبريره، أو الموافقة عليه.
إنها محاولة للفهم، تعالوا نناقش عناصرها ونحاول معاً الإجابة عن السؤال:
لماذا أقدم «أردوغان» على التدخل بقوة فى الصراع الليبى؟
1 - هناك إرث تاريخى فى المشروع العثمانى الجديد، وهو اعتبار العراق وسوريا وليبيا مناطق نفوذ تقليدية تقع تحت ما يحب أقطاب حزب أردوغان أن يطلقوا عليه «وقوع هذه الدول تحت مسئولية أنقرة»، وكأنها عودة إلى عهد الولاية العثمانية على المنطقة، وكأن «أردوغان» هو خليفة الدولة، وأمير المؤمنين الذى استبدل أنقرة بالأستانة، كمركز حكم للمنطقة بأسرها!
2 - منطق الخلافة للحزب الحاكم، هو منهج عقيدى فقهى مذهبى يرى أن حكم الإسلام السياسى على نهج فكر جماعة الإخوان المسلمين هو «محرك جوهرى وأساسى» فى سياسات الداخل والخارج.
إن مجرد الرجوع إلى الاحتفالية الكبرى التى أقامها حزب «أردوغان» الحاكم للذكرى الـ50 على إعدام «الزعيم» الأستاذ سيد قطب، التى حضرها قادة الحزب، وعلى رأسهم وزير العدل يلدريم، وياسين أقطاى المستشار الرئيسى عند أردوغان للشئون الخارجية، والمتخصص فى الشرق الأوسط، يمكن أن يوضح ذلك.
قال «أقطاى» فى كلمته متحدثاً عن الأستاذ سيد قطب، إن إسهام سيد قطب فى الصحوة الإسلامية فى تركيا، هو أمر أساسى، ويجب أن يعرف الجميع أن فكره ليس خاصاً بالمصريين وحدهم.
لا بد أيضاً أن نشير إلى أن سجل الدراسة عند «أقطاى» يدور حول الإسلام السياسى، وأن لديه كتاباً بحثياً مهماً بعنوان «سيد قطب وتأثيراته على فكرة الصحوة».
3 - من هذا المنطلق يمكن فهم أن «أردوغان» وجماعته يرون أن كلاً من:
1 - الديمقراطيات الغربية فى أوروبا.
2 - حكم الملوك والمشايخ فى الخليج -باستثناء قطر.
3 - الأنظمة الوطنية التى يحكمها حكام من أصول عسكرية.
هى كلها مصادر تهديد، وهى -حكماً بالضرورة- تشكل عدواناً أكيداً على مشروع الخلافة الإسلامية، تقف ضد التمدد تجاه أوروبا، أو عبر المتوسط شرقاً إلى العالم العربى.
4 - نصل الآن إلى دوافع السلوك التركى القائمة على المصالح المجردة.
هنا أستعين بدراسة قيمة للدكتور بشير عبدالفتاح، الخبير فى الشئون التركية، جاء فيها ذكر الإحصاءات التالية:
1 - تركيا دولة غير منتجة للطاقة، تستورد 95٪ من احتياجاتها، وهو ما يكلفها سنوياً 50 مليار دولار.
2 - لدى تركيا 12 ميلاً بحرياً فقط وفقاً لاتفاقية البحار عام 1982، وهو ما لا يوفر لها مسافة مناسبة تؤمن لها استكشافات نفطية أو للغاز قبالة سواحلها، رغم أن المسح الذى جرى للمنطقة أكد وجود منابع نفط وغاز فى المثلث الواقع بين قبرص وإسرائيل واليونان، أى شرق وجنوب قبرص، وليس شمالها القريب من تركيا.
5 - المشروع الجهنمى التركى الحالى يقوم على تجاهل حقوق كل من قبرص واليونان، وبدء احتساب الجرف القارى البحرى «على مزاج أنقرة»، ابتداء من ليبيا وليس قبرص، واقتسامه بين أنقرة وطرابلس!!
6 - ولا يخفى على أبسط العقول السياسية أن هذه «الخرافة الجغرافية وهذا الابتداع التركى»، المخالف للاتفاقية الدولية للبحار تهدد مصالح كل من مصر واليونان وقبرص بشكل مباشر فى استكشافات الغاز.
7 - حتى يتسنى تحقيق هذا المشروع الأردوغانى، ليس مصادفة أن يكون التمويل للعملية بالكامل من قطر، كما حدث فى تمويل مشروع احتلال شمال شرق الفرات.
وليس مصادفة أن تكون الميليشيات الداعمة والمؤيدة للمشروع التركى هى ميليشيات إرهابية إسلامية تحظى بالدعم والتمويل والتدريب والتسليح من قطر وتركيا منذ أبريل 2011.
وليس مصادفة أن تكون الحكومة الداعمة، وما يُعرف بالمجلس الرئاسى، عبارة عن أعضاء فى جماعة الإخوان «الفرع الليبى».
8 - المذهل أن «أردوغان» الذى يتحكم فى نسبة واحد فى المائة من الناتج القومى العالمى، ويمثل سكانه 1٫7٪ من سكان العالم، ويحتل جيشه الترتيب رقم 14 فى جيوش العالم، هو أداة لتنفيذ المشروع الإخوانى الممول من قطر.
9 - من المهم أن قطر دفعت فاتورة باهظة لدعم المشروع التركى تقدر بما يزيد على 50 مليار دولار فى 9 سنوات.
هناك دوافع قطرية مباشرة قبل وبعد محاولة الانقلاب على «أردوغان»، وهناك مشروعات مشتركة واستثمارات واستحواذ على بنوك وعقارات وحصص فى شركات.
10 - أقامت شركات الإنشاءات التركية 146 مشروعاً بقيمة 17 مليار دولار، كما اشترى بنك قطر الوطنى 99٪ من بنك فينانس التركى، وتم شراء شركة إعلامية تركية كبرى من قبل شركة «بى. إن» القطرية مقابل 1٫2 مليار دولار.
باختصار هذه عملية قرصنة بحرية ممولة ترفع شعاراً إسلامياً لنصرة ميليشيات تهدف لجنى مكاسب مباشرة من ليبيا، وابتزاز دول الجوار البحرى لتقاسم ثرواتها الطبيعية دون وجه حق من خلال سياسات فرض القوة.
هذه المغامرة الحمقاء غير المحسوبة التى تراهن على «ضعف دول المنطقة وانشغالها بملفات صراع متعددة، وسلبية واشنطن وأوروبا تجاه المنطقة»، سوف تنفجر عاجلاً أو آجلاً فى وجه أصحابها.
إن من يتابع تصريحات الرئيس السيسى خلال الأيام الثلاثة الماضية حول الوضع فى ليبيا سوف يدرك أن الرجل شديد الجدية فى ما يقول، وأن الموقف عنده محسوب من منظور الخطوط الحمر فى الأمن القومى المصرى، وهى مسألة شديدة الصرامة عند الرئيس وعند شعب وجيش مصر.
إن حماقة «أردوغان» تنطبق عليها مقولة ساخرة للفرنسى «ألبير كامو»: «عندما تموت هذا العام تأكد أن الموت لن يزورك فى العام المقبل»!