يجب أن نستعد لعالم متغير شديد القسوة، موغل فى التنافسية، يتميز بأنانية قاتلة لا تعرف الرحمة، لأنه ببساطة عالم ما بعد أسوأ أزمة واجهتها البشرية منذ الحرب العالمية الثانية.
قالت مجلة «فورين أفيرز» فى دراسة متعمقة فى آثار عالم ما بعد الكورونا «إن هذه الأزمة ذات التداعيات الإنسانية والاقتصادية والسياسية سوف تعيد تشكيل العالم بقسوة لأنها أشد ضراوة مما عرف بالكساد العظيم الذى أصاب الولايات المتحدة عام 1929».
خسرت أكثر من 210 دول فى العالم حتى كتابة هذه السطور خسائر مباشرة وغير مباشرة منذ بدء الأزمة 3٪ من إجمالى ناتجها القومى، وشهدت أعلى معدل للبطالة منذ 90 عاماً، وبلغ حجم الانخفاض فى الدخل منذ بدء الأزمة مقارنة بذات الفترة منذ العام الماضى 7 تريليونات دولار، ووظفت الحكومات دعماً لتعويض الخسائر من خلال اعتمادات إضافية تقدر بـ12 تريليون دولار، ما سوف يزيد العجز الكلى لاقتصادها.
هذا المجتمع المأزوم، وهذا الاقتصاد المتعثر وهذه الضغوط القاسية على البلاد والعباد سوف تخلق عالماً أكثر انكماشاً، أكثر تحوطاً، أقل قدرة على الاستثمار الخارجى، أكثر ضعفاً فى توفير تقويمات اجتماعية وتوفير خدمات عامة بسبب الأزمة.
هذا العالم، كان قبل كورونا يعيش سياسات قائمة على حرب العقوبات والعقوبات المضادة التى لا تعرف أى تكامل أو تجانس بين الكبار.
سوف تزيد حالة التنافسية الشرسة بين الكتلة الآسيوية الصين، سنغافورة، الهند، كوريا الجنوبية وتساندها روسيا الاتحادية ومجموعة الإسبان، مقابل أوروبا الهشة التى ضربها زلزال الكورونا، والولايات المتحدة ذات السياسات التجارية والاقتصادية الانعزالية.
إننا الآن على أعتاب عالم شرس يستخدم حكمة غير أخلاقية تقول: «إذا جاء الطوفان ضع ابنك على الأرض وقف على رأسه حتى تنجو».
قد تجتمع زعامات العالم، كما حدث فى قمة العشرين الافتراضية من أجل تدبير موارد طوارئ لمواجهة الأزمة لكن ذلك لا يعنى أننا سوف نشهد عالماً «متراحماً مترابطاً متعاوناً» لكن -على العكس- سوف نعايش سلوكاً فطرياً أنانياً يتبع مبدأ: «أنا ومن بعدى الطوفان».
من هنا علينا فى عالمنا العربى أن نتوقع ملامح السنوات الصعبة المقبلة:
1- قيود شديدة على حركة الصادرات من عالمنا العربى إلى العالم، وتفضيل الكبار من الدول لمنتجاتها الوطنية.
2- ندرة وصعوبة حصول الدول الصغيرة والمتوسطة على مساعدات وقروض وهبات من المؤسسات المالية الدولية.
3- تقلص الاستثمار الأجنبى المباشر فى الأسواق الناشئة ومنها بالطبع دول الشرق الأوسط.
4- ضعف معدل الاستهلاك العالمى، ما سوف يضعف الطلب على حركة التجارة العالمية، وتأثيراته المباشرة على اقتصادات الدول وعلى سعر الطاقة (البترول - غاز).
5- تنافس واضح فى حركة النقل الجوى والبحرى نتيجة لما سبق من أسباب.
6- انخفاض حركة السياحة بسبب انخفاض السيولة لدى راغبى السياحة فى العالم، ما سوف يؤدى إلى تداعيات سلبية على الصناعة بشكل مباشر وعلى النشاطات المتأثرة بها.
باختصار شديد يمكن القول إن الدعوة العالمية لبناء خطط للتنمية من 2020 إلى 2030، سوف تحتاج إلى مراجعة وتخفيض سقف التطلعات والطموحات وتعديل الأرقام المستهدفة لمواجهة خسائر التداعيات الأخيرة.
ويقول الدكتور هنرى كسينجر، وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق والمفكر الاستراتيجى الأكثر شهرة، فى مقال أخير لجريدة الـ«وول سترييت جورنال»: «إن وباء كورونا سوف يغير النظام العالمى»، وحذر «زعامات العالم التى ما زالت تتعامل مع الأزمة على أساس وطنى فردى بحت»، وكتب كيسنجر: «إن تداعيات التفكك الاجتماعى المترتب على تفشى الفيروس لا تعترف بالحدود». ودعا الكاتب قادة العالم إلى «إطلاق مشروع مواز للانتقال إلى عالم ما بعد كورونا».
ورأيى المتواضع أن هذا لن يحدث فى ظل قيادات متحفزة، تنافسية بشكل شرس تعيش على عالم من العقوبات!
من هنا يتعين على حكومات المنطقة، وبالذات وزارات المالية والاقتصاد والتخطيط بها، أن تستوعب -أولاً- هذه المتغيرات الخطرة، وتبدأ فى إعادة خططها للعشر سنوات المقبلة، التى كانت قد أُعدت بشكل تفصيلى بناء على معطيات أكثر تفاؤلاً!
صعوبة الزمن الآتى يمكن تخيلها حينما نتصور ثمن خسارة كل دول العالم فاتورة التوقف عن الأعمال والخدمات كاملة، الجميع، فى وقت واحد!!
إذا كانت هناك صفة للزمن الآتى فهى «الزمن الشرس الصعب الذى سوف يذبح فيه القوى الضعيف دون أن يذكر اسم الله».
لذلك نقول قول الحق تبارك وتعالى «اللهم لا تحملنا ما لا طاقة لنا به».