يخطئ من يعتقد أن فايز السراج هو الذى يصنع القرار فى ليبيا، وأن «آبى أحمد على» هو من يصنع القرار فى إثيوبيا، كلاهما لا يملك حرية القرار الكامل المستقل.
صراع مياه النيل فى إثيوبيا، وصراع النفط والغاز فى ليبيا، يموله ويديره ويحميه كل من قطر وتركيا!.. مصدر التحريض فى ملفى ليبيا وإثيوبيا واحد!
والذى يدير الموقف والمتحكم فى قرار الحرب والتسوية فى سوريا ليس الرئيس بشار الأسد لكنه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين.
والذى يرفع سقف التوتر الداخلى أو يخفضه فى العراق ولبنان هو المرشد الأعلى الإيرانى.
فقدت معظم القوى المحلية القدرة على إدارة مقادير القرارات العليا الخاصة بأمن وسلامة وتوجهات بلادهم.
أصبحت هذه البلاد مرتهنة لقوى إقليمية، وأصبح القرار الوطنى خارج سيطرة أصحاب السلطة الشرعية، وتحولت المنطقة العربية إلى ساحات قتال تمارس فيها القوى الإقليمية وأصحاب المصالح الدولية صراعاتهم.
تحولت الكثير من بلادنا العربية إلى ساحات قتل وقتال يتم فيها تجربة وتقديم عروض مباشرة بالذخيرة الحية تُصور وتُبث بواسطة وسائل الإعلام على الهواء مباشرة.
قيمة أى سلطة وطنية هى أن «تمارس» هذه السلطة، لمصلحة «الوطن» وليس من خلال تبعية مطلقة لقوى خارجية تمسك بخيوطها وتحركها مثل «الماريونيت»!
البوصلة السياسية التى تتحكم فى لعبة الصراع، هى أولاً وقبل أى شىء معرفة حقيقة اللاعبين، بمعنى معرفة دور ومركز كل لاعب.
كثير من القيادات الآن فى اليمن وسوريا ولبنان والعراق وليبيا وإثيوبيا والصومال وجيبوتى وفلسطين المحتلة هم «وكلاء» لقوى تسيطر على كامل إرادتهم السياسية وتتحكم فى مصائرهم ومصائر من يتبعونهم.
أحياناً يكون فعل السيطرة الخارجية تحت شعار مقدس من ناحية الشكل، شرير من ناحية المضمون، يستخدم شعارات دينية مغلوطة.
أحياناً أخرى تكون العلاقة بلا تجميل مثل علاقة بائع مستسلم إزاء مُشترٍ متحكم ومسيطر على كافة بنود العقد وتفاصيل الصفقة.
حينما يدخل المال، بمعنى أن يقف السياسى فى طابور بانتظار أن يقبض «يوميته» السياسية من مصدر التمويل، فإنها تتحول ببساطة إلى علاقة صاحب عمل وأجير!
لذلك كله يخطئ من يتصور أن أعداءه أو خصومه فى ليبيا وإثيوبيا وسوريا ولبنان والعراق والصومال وجيبوتى هم من يتصدرون واجهة المشهد السياسى.
هؤلاء ليسوا الأبطال الحقيقيين لهذا الفيلم الدموى التراجيدى المحزن، لكنهم «كومبارس» لا يملكون من أمرهم شيئاً، ولا فى ممارسة إرادتهم أى قدر من الحرية.
لذلك كله يحق أن نفهم أن من تحدث فى جلسة مجلس الأمن الخاصة بمياه النيل مؤخراً ليس وزير الخارجية الإثيوبى ولكن المال والنفوذ القطرى التركى.
ويجب أن نفهم أن الذى أثار القلاقل فى المنطقة الخضراء ببغداد ليس الحشد الشعبى العراقى ولكن الحرس الثورى الإيرانى!
وعلينا أن ندرك أن الذى يرفض الالتزام بخط سرت - الجفرة الذى حدده الرئيس عبدالفتاح السيسى ليس السراج ولكن مخابرات الدوحة وأنقرة.
وعلينا أن نفهم أن الذى يقرر مسار العمليات العسكرية أو مصير المفاوضات السياسية فى سوريا ليس الرئيس الأسد ولكن الشرطة العسكرية الروسية بتوجيه من السفير الروسى فى موسكو الذى صدر قرار بمنحه سلطات الرئيس بوتين للتصرف فى الملف السورى.
وعلينا أن ندرك بما لا يدع مجالاً للشك أن استمرار ميليشيات الحوثى فى القتال البرى أو إطلاق الصواريخ الباليستية ليس قراراً ذاتياً لكنه يدار من غرفة عمليات عسكرية إيرانية من قيادات الحرس الثورى.
كان المارشال مونتجومرى يضع على منضدة مكتبه فى خيمة قيادة معركة العلمين الشهيرة صورة عدوه اللدود «روميل» وحينما سألوه عن السبب قال: «إنه عدوى حتى الموت، لكننى أحترم أنه لا يهاب الموت حتى يدافع عن وطنه وأوامر قيادته»!
نحن - للأسف - لا نستطيع أن نقول نفس الشىء على الكثير من الأطراف المتصارعة فى هذه المنطقة الهشة المعقدة المتفجرة.
نحن لا نستطيع أن نحارب أعداءنا ونحن نحاربهم، ولا نستطيع أن نثق فيهم ونحن نفاوضهم، ولا نعقل كيف وصلت بهم الأمور إلى الانتقال من حالة الخصم إلى العدو، ومن حالة العدو إلى خطيئة «العميل».
فى التاريخ الإنسانى هناك حضارات تصادمت وتحاربت ثم تحالفت واندمجت.
فى الحروب العالمية، انظر إلى علاقة ألمانيا وفرنسا اليوم، وتأمل ما بين موسكو وواشنطن بعد عقود من الحرب الباردة، ومن كان يصدق أن رئيساً أمريكياً يضع يده فى يد رئيس كورى شمالى، ومن كان يعتقد أن فيتنام ستتوحد، وأن ألمانيا ستصبح شعباً واحداً لا شعبين، وتتولى منصب المستشارية فيها سيدة من أصول تنتمى لشرق ألمانيا وليس غربها.
أعداء الأمس الذين يختلفون معك فى الفكر أو المصالح أو السياسات يمكن بعد حين الحوار معهم، والصفح عما حدث، أما «العدو العميل» فهى حالة «إعلان وفاة» لأى إمكانية للتفاهم المقبل، لأن التفاهم يقوم على الثقة، ولا ثقة لمن يبيع ضميره وقراره للغير!