على مقهى فى عاصمة عربية، وبينما كنت على وشك الانتهاء من شراب الليمون بالنعناع المثلج وطلب فاتورة الحساب، تقدم من طاولتى شاب خليجى عرّفنى بنفسه، واستأذن أن يجلس معى لبضع دقائق قائلاً: «أنا من عشاق مصر، فهناك تعلمت فى مدارسها وعشت بها مع والدتى مصرية الأصل».
رحبت به، ودار بيننا الحوار التالى:
الشاب: يا أستاذ أنا قلق على أم الدنيا؟
العبدلله: لماذا؟ مصر بخير والحمد لله يا عزيزى.
الشاب: أنا طالب هندسة تخصص هيدروليكا المياه، لذلك أشعر بقلق شديد.
العبدلله: تقصد ما حدث فى مفاوضات سد النهضة؟
الشاب: بالضبط، السلوك الإثيوبى بعدم الحضور للتوقيع النهائى ينذر بأمور خطيرة.
العبدلله: يصعب على إثيوبيا الامتناع الكامل عن التوقيع، ويبدو أن هذا تكتيك تفاوضى يستخدم فى اللحظة الأخيرة للضغط من أجل تحسين بعض بنود الاتفاق النهائى.
الشاب: أخشى أن يكون موقفاً نهائياً، بمعنى أن يكون موقف حكومة أديس أبابا هو عدم التوقيع، وخلق أمر واقع وبدء ملء السد.
العبدلله: هذا مخالف لاتفاق عام 2015، الذى وقّعت عليه إثيوبيا وينص على عدم قيامها بملء السد إلا بعد الاتفاق النهائى على كافة النقاط التقنية ومنها حجم الملء، وتوقيتاته، وحصص الطرفين المصرى والسودانى.
الشاب: أخشى أن يكون سلوكهم متعمداً من أجل الإضرار بالمشروع المصرى الناجح للإصلاح الاقتصادى.
العبدلله: عندك حق فى مخاوفك، لأن حرمان مصر من حقها العادل فى المياه هو عمل شرير ضد مصالح مصر العليا، وضربة موجعة للأمن القومى المصرى.
الشاب: كيف؟
العبدلله: تخيل -لا قدر الله- لو حدث ذلك، فإنه سوف يؤثر بالضرر العظيم على البلاد والعباد والأراضى الزراعية، ومصادر الطاقة المائية، والإنسان والحيوان، ويجعل مصر بلداً يعانى من الفقر المائى والشح فى الطاقة.
الشاب: إذن، ما العمل؟ وما البدائل؟
العبدلله: هذه الأمور لا تحتمل الاستفزاز وتحتاج إلى النفس الطويل والحكمة فى إدارة الأزمة.
الشاب: إذن، ماذا ستفعلون؟
العبدلله: ما زال هناك أمل فى المفاوضات، وما زلنا ننتظر رد الفعل الرسمى الأمريكى، لأن واشنطن ترتبط بعلاقات مركزية مع أديس أبابا، ولا تنسَ أن الأمريكان كانوا شهوداً على كافة تفاصيل مسودة الاتفاق.
الشاب: ولكن رئيس الوزراء الإثيوبى لم يلق اعتباراً للدور الأمريكى.
العبدلله: لا تنسَ أن رئيس الوزراء لديه مشاكل فى تركيبة الحكم الداخلية، فهو أول رئيس وزراء مسلم، وهو يمثل اتجاهاً عرقياً قبلياً له من يعارضه، ويعمل فى ظل نظام ديمقراطى غير ناضج ومخترق من مصالح أجنبية.
الشاب: إذن، ما البديل؟
العبدلله: هناك بديل الشرعية الدولية وتحريك مجلس الأمن تحت دعوى أن الامتناع الإثيوبى يهدد السلم والأمن الدوليين، وهناك إمكانية للتحويل من مجلس الأمن إلى محكمة العدل الدولية، وهو إجراء ملزم لكافة الأطراف، وقراراته ستكون ملزمة لأديس أبابا، وإلا تخضع لعقوبات دولية، ولا تنسَ أن دولاً مثل السعودية والإمارات ترتبط بمصالح قوية مع إثيوبيا يمكن استخدامها عند الحاجة.
الشاب: ما زلت تفكر بعقلية السياسة والحكمة دون القوة.
العبدلله: يجب الانتباه أن هناك عملاً دؤوباً لاستدراج مصر إقليمياً من اليمن إلى إيران، ومن شرق البحر المتوسط إلى البحر الأحمر، ومن ليبيا إلى إثيوبيا لمواجهات، لتعطيل مشروع النهضة، لذلك يجب ألا نبتلع الطعم.
الشاب: وهل يمكن أن يأتى ذلك بنتائج؟
العبدلله: دعنا نستنفد كل الوسائل قبل أن نصل إلى مواجهات الضرورة.
ودّعنى الشاب وهو مستغرق فى التفكير، داعياً الله أن أكون على صواب.