أصعب أنواع الساسة معاناة منذ بدء الخليقة هو «السياسى المؤمن بالله»!
السياسة كما سميت فى عهد أثينا القديمة هى «علم الرئاسة»، وهذا العمل يحتاج إلى قدر هائل من الحكمة، والدهاء، والمرونة، والمراوغة، والشدة، والعنف، بينما الإيمان جوهره ومركزه هو مخافة الله، ويتعين فيه على المؤمن أن يتبع مقام الإحسان، بمعنى «إذا كنت لا ترى الله، فهو يراك»، لذلك يضع السياسى المؤمن قيداً أخلاقياً فى كل ما يعمل.
الاستبداد سهل، الفساد مغرٍ، البطش متاح.
باختصار شديد، الظلم أسهل من العدل، والرحمة أصعب من البطش، والتسامح له متطلبات أقسى من الثأر والكيد.
إذا أردت أن تعرف الفارق الهائل والشاسع بين السياسى والمؤمن راجع خطابين بالأمس يعبران عن موقفين متناقضين فى الحياة: خطاب السياسى دونالد ترامب، وخطاب بابا روما، قداسة البابا فرنسيس.
«ترامب» سياسى، براجماتى، انتهازى، نفعى، يؤمن بالرأسمالية المتوحشة، المصلحة الذاتية عنده فوق كل شىء وأى شىء، «ترامب» يرى أنه -كما صرح- لو كان حجم خسائر «كورونا» فى الولايات المتحدة 200 ألف ما بين إصابة ووفاة فإن هذا رقم مقبول!
«ترامب» يرى أنه يتعين على كل إنسان أن يبنى نفسه بنفسه، وأن دولة الرعاية هى دولة فاشلة، وأن الفقير فقير لأنه غير كفء، وأن دعم الدولة مؤخراً بـ2 تريليون دولار هو لإنعاش الاقتصاد حتى لا تتأثر الأسواق المالية، فتفقد الشركات الكبرى قيمتها، فيتأثر كبار حملة الأسهم!
البابا فرنسيس، رجل طوباوى، نصير الفقراء والضعفاء، يضع حياة السيد المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، نموذجاً يحتذى به فى كل فعل، وكل خطوة، وكل كلمة، وكل قرار.
البابا فرنسيس يؤمن مخلصاً أن الوباء امتحان «عسير وصعب» لمدى إيمان المؤمن بخالقه، وأن الخلاص الإنسانى يأتى بسمو النفس البشرية عن الحقد، والكراهية، والظلم، والقتل، وتجارة الحروب، أمس الأول، ولأول مرة منذ مائة عام، يقف بابا روما فى ذكرى عيد الفصح المجيد يقدم عظته فى بهو كنيسة.
دعا البابا فى هذه الكلمة الصادرة من قلب مؤمن، وعقل مستنير، وهذا نهج الرجل منذ أن تولى رئاسة الكنيسة وحصل على المقعد البابوى ليصبح البابا رقم 266 فى تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، إلى إشاعة المحبة والتسامح بين البشر تطبيقاً لقول المسيح عليه السلام: «أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم».
قال البابا فرنسيس الثالث فى عظته أمس الأول إنه «يصلّى لأجل هداية المستفيدين والمتاجرين باحتياجات الناس ومستغلى الآخرين فى ظل تفشى فيروس كورونا».
ودعا البابا إلى وقف إطلاق نار عالمى لكل من يحمل السلاح الآن، كما دعا إلى إيجاد حلول مبتكرة لمواجهة فيروس كورونا، كما دعا إلى إلغاء ديون الدول الأكثر فقراً كى تستطيع مواجهة الأزمة الحالية.
فى كلمته هذه استحق البابا فرنسيس وصف شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، الذى تجمعه محبة إنسانية مع بابا روما: «إن هذا الرجل يقدم نموذجاً رائعاً للتسامح الإنسانى والإيمان العميق»، نقيضان: «ترامب» والبابا، الأول موغل فى انتهازيته البراجماتية، والثانى عميق فى إيمانه ومبدئيته.
قوة «ترامب» فى منصبه، فى جيشه، فى مركز بلاده الاقتصادى، فى قوة الدولار، فى امتلاكه لقنبلة نووية، بينما قوة البابا فى روحانيته، فى إيمانه، فى أتباعه الذين يؤمنون برسالته وبدعوته.
أهم أساطير الحياة وأوهامها التى سقطت فى ابتلاء الكورونا: «أن الإنسان لا يساوى جناح بعوضة أمام قدر الله وقوة الطبيعة».
من الأوهام التى سقطت أن أغنى الأغنياء وأقوى الأقوياء من البشر لا يعنى شيئاً أمام ذرة من ذرات فيروس غامض خارج عن سيطرة العلم ومراكز الأبحاث وأقوى الحكومات وأعتى الجيوش، القوة، أى قوة، فى أى زمان وأى مكان، بلا إيمان هى وبال وهلاك على صاحبها.
والإيمان، بلا قوة يحكمها قيد أخلاقى، هو تعبير عن الضعف والاستسلام.
معادلة القوة التى تنطلق من مخافة الله هى طوق النجاة الوحيد، وأكرر الوحيد، للإنسان من بدء الخليقة حتى قيام الساعة، وإذا كان العدل هو «أساس الملك» فذلك مرده: «أن الله يسمع ويرى».
يظن حبيبه حسنا جميلا / ولو كان الحبيب من القرود
وأخيراً امرؤ القيس:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم / الحب أعظم ما في المجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه / وإنما يصرع المجنون في الحين