انفجر الناس فى لبنان، ليس احتجاجاً على قضية بعينها، ولكن رفضاً للنظام بأكمله دون استثناء!
فى لبنان مربع الطائفية: الفساد، الاختراق الإقليمى والدولى، المحاصصة فى الحكم والسياسة، والفساد.. هو الخلطة السحرية المؤدية -حكماً- إلى الغضب العارم المؤدى للانفجار.
ما يحدث فى لبنان -حتى الآن- هو حركة مطلبية تلقائية من جماهير «كفرت من استحالة الحياة، فكفرت بكل، وأكرر كل، النخبة والطبقة السياسية فى البلاد».
نادى الـ5 آلاف سياسى لبنانى العائلى الطائفى الذى يزاوج بين البيزنس والسياسة، والذى يتعيّش على كل أعمال السمسرة غير المشروعة، هو الذى يتداول الحكم والإدارة العليا والمناصب الأساسية فى كافة المؤسسات التنفيذية والأمنية منذ العام 1943.
انتقل لبنان من بيزنس الخدمات والسياحة إلى بيزنس الحرب الأهلية (سلاح، مخدرات، أتاوات، ميليشيات) لمدة 17 عاماً، إلى بيزنس توزيع المصالح على لوردات الحرب الأهلية اللبنانية.
كانت الصفقة التى أقنعت لوردات الحرب الأهلية أن يتم استبدال بيزنس الحرب ببيزنس جديد يقوم على «بيزنس السلم الأهلى» (الأراضى، أملاك بحرية، مولدات كهرباء، غسيل أموال، تهريب بضائع، زراعة مخدرات، فساد وسمسرة حكومية).
تم اغتصاب المال العام فى حكومات متعاقبة، وأصبح المنصب الحكومى الرفيع هو مقدمة للانتفاع الشخصى عبر فساد عميق لا ضمير له امتص دماء الطبقات الكادحة.
ومع انخفاض تحويلات المغتربين اللبنانيين فى العالم العربى وأفريقيا بسبب سياسات توطين الوظائف، ومع هبوط السياحة فى لبنان، ومع زيادة الدين العام إلى 120 مليار دولار، استحالت الحياة اليومية، وحدث تهديد وجودى للطبقات الكادحة، وتآكلت كافة شرائح الطبقة المتوسطة النشطة فى لبنان.
ارتفع عدد العاطلين عن العمل إلى 40٪ من قوة العمل فى البلاد، وأصبح الحديث عن ارتباط العجز الحكومى بمصالح شخصية لأساطيل المافيا السياسية فى لبنان.
أصبح معروفاً أن قضايا النقابات والكهرباء والأملاك البحرية والغاز ترجع إلى فساد مخيف تم فيه توزيع المغانم على الطبقة السياسية الحاكمة.
أصبح التوريث السياسى العائلى داخل الأحزاب التقليدية أمراً مفروغاً منه، وأصبح الإقطاع السياسى متزاوجاً مع الفساد.
وأصبح كل فريق يستقوى بفريق فى الخارج، وتحول الصراع الداخلى إلى تعبير حقيقى عن الصراع الإقليمى فى المنطقة.
أصبح المال السياسى شريان الحياة للأحزاب الرئيسية فى البلاد، وتحول رؤساء هذه الأحزاب وكلاء، بل عملاء، للقوى التى تمولهم.
إنها مقادير -لا شك- لكعكة التدهور والانهيار المؤدى إلى الفوضى.
ثار الناس وانفجروا بعدما أصبحت فاتورة الكهرباء والغاز والماء والموبايل وحدها أضعاف مرتبهم.
ثار الناس لأن سعر ربطة الخبز وجالون البنزين وجالون المياه غير متوفر لدى الملايين.
أصبح «الزى المدرسى» وفاتورة الدواء أموراً شبه مستحيلة، تكسر النفوس وتقهر أرواح الطبقات المقهورة اجتماعياً، المهمشة سياسياً، المحبطة إنسانياً.
نفد صبر الناس، وأصبحت ثورتهم ضد الجميع، وأصبح كفرهم مطلقاً بكل، وأكرر كل، الطبقة السياسية.
ضاعت الثقة تماماً لدى الجماهير بالعائلات والأحزاب والطوائف والرموز التقليدية، والقيادات الروحية كلها، وأكرر كلها.
هذه الحركة ليست حركة تيار ضد آخر، أو طبقة ضد أخرى، أو حزب ضد آخر.
هذه الحركة ليست جزءاً من مؤامرة محلية أو إقليمية أو دولية، بل حركة جذرية تلقائية معبرة عن نفاد صبر الملايين الموجوعة الغاضبة.
الصراع الآن يتخذ هذه المرة طرفى صراع جديدين هما: الطبقة التقليدية السياسية ورموزها التى تدير النظام السياسى منذ 1943، مقابل جماهير الشعب التى تعيش على أرض لبنان منذ العصر الحجرى حتى الآن.
إنه صراع بين انهيار عهد ودولة ونظام وطبقة حاكمة، أو انهيار تماسك شعب ودولة، وتحويلها -لا قدّر الله- إلى دويلات وفوضى ودماء.
هناك شىء جذرى تغير فى عقول الناس ونفوسهم ووعيهم، وهو أمر لم تفهمه ولم تستوعبه الطبقة السياسية التقليدية حتى الآن.
انهيار طبقة أم انهيار شعب.. تلك هى المسألة.
ولعل ما قاله المفكر العظيم جمال الدين الأفغانى كان صادقاً حينما قال: «تنهار الدول -أولاً- من داخلها، قبل أن يغزوها غازٍ من الخارج».
من سيُقصى الآخر: الشعب سيدفع النظام -كل النظام- للرحيل، أم أن النظام القديم برجاله وطوائفه وأحزابه وميليشياته سيدفع الشعب إلى الرحيل!؟
الإجابة غداً بإذن الله.