ثورة الجماهير فى لبنان هى أنضج عمل ثورى فى منطقة الشرق الأوسط.
هذا هو رأيى الشخصى، الذى أتحمل مسئوليته وحدى أمام ضميرى وأمام التزامى الأخلاقى والإنسانى.
هذا شعب فاجأ نفسه، وفاجأ الجميع، بأنه استطاع أن يعبر آفات قاتلة لتركيبة أى مجتمع وهى:
1- الطائفية السياسية.
2- العائلات الإقطاعية.
3- الأحزاب الطائفية.
4- فساد المال السياسى الخارجى.
5- المناطقية والعشائرية.
6- الكراهية المذهبية.
ومنذ قيام لبنان القديم وعهد المتصرفيات ثم الانتداب وحتى دستور 1943، والمجتمع اللبنانى هو مجتمع «المحاصصة الطائفية».
اعتقد صانعو معادلة الحكم فى لبنان، وعلى رأسهم الاحتلال الفرنسى، أن إعطاء كل طائفة حصة هو «تسكين للانقسام الطائفى فى البلاد وبين العباد».
تحوّلت المحاصصة من مسيحية - درزية، إلى مسيحية - سنية، ثم إلى مثالثة مسيحية - سنية - شيعية.
وداخل كل معسكر طائفى هناك جماعات وأحزاب وعائلات!
وأصبح لبنان نموذجاً مخيفاً لتجزئة ما هو -بالفعل- مجزّأ، وانقسام ما هو -واقعياً- مُقسّم!!
يوجد فى لبنان، رسمياً: موارنة، روم أرثوذكس، روم كاثوليك، أرمن كاثوليك، سريان أرثوذكس، سريان كاثوليك، بروتستانت، كلدان أرثوذكس، وكلدان كاثوليك، وأقليات مسيحية.
كل هذه الطوائف يضاف إليها ما هو سنى وشيعى ودرزى وعلوى ويهودى.
هذه الطوائف التى تتمثل بـ«مافيا سياسية» فى الحكم تواجه الآن ائتلافاً شعبياً من كل الطوائف، والأحزاب، والعائلات، والمناطق، والطبقات، والأعمار من طلبة المدارس حتى كبار السن.
هذا الائتلاف الشعبى، مع محاسبة الفساد وكشف السرية المصرفية، والرقابة والتفتيش على المناقصات، وكشف فساد النفط والغاز والكهرباء والكسارات والأملاك البحرية.
فى لبنان، اتفقت الطبقة الحاكمة: «مسيحية سنية - درزية - شيعية»، على تقاسم مغانم ومكاسب المال العام، وأصبحت خزانة الدولة هى «مغارة على بابا» التى ينهل منها «لوردات الطوائف الفاسدون».
ومثل «دراكولا»، مصاص الدماء التاريخى، تم امتصاص كل خيرات الشعب اللبنانى من قبَل «مافيا السياسة» الطائفية.
تحوّلت المحاصصة السياسية إلى محاصصة فى نصيب كعكة الفساد من عمولات وتوكيلات وسمسرات و«تلزيم أصحاب السلطة» أهم ملفات المال والأعمال.
انفجر الناس غضباً وثورة على مصاصى دمائهم ورفعوا شعار المطالبة برحيلهم.
وخرج الشعار الجامع المانع القاطع غير المساوم: «كلن يعنى كلن»، أى حينما نقول كلهم فاسدون، فنحن -كشعب- نعنيهم كلهم دون استثناء.
هنا ولأول مرة فى تاريخ لبنان الحديث تحوّلت أطراف الصراع التقليدى، التى كانت طائفة دينية ضد ديانة أخرى، أو حزباً ضد حزب، أو عائلة ضد أخرى، أو منطقة ضد أخرى، أو العاصمة ضد الأطراف، أو مذهباً ضد آخر، إلى صراع من نوع آخر.
الصراع الآن بين الطبقة السياسية كلها من جانب، ومعظم الحراك الشعبى من جانب آخر.
يخطئ من يعتقد أن غضب الشارع اللبنانى هو مجرد «هبَّة» سوف تنطفئ، أو حركة احتجاجية محدودة، أو أصحاب مطالب فئوية يمكن استرضاؤهم بتحقيق مطالبهم.
التوصيف الدقيق والأمين لما حدث منذ 17 أكتوبر الماضى هو «ثورة شارع ضد أحزابه، وطوائفه، ومذاهبه، بهدف تطهير البلاد والعباد من طبقة سياسية فاسدة مالياً وسياسياً اتفقت فيما بينها وتآمرت على المال العام، وبالتالى على ماضى وحاضر ومستقبل الناس».
إنها ثورة عابرة للطوائف، والأحزاب، والعائلات، والمناطق.
إنها ثورة تجاوزت الشئون المطلبية إلى النضال من أجل «حقوق».
هناك فارق بين ثورة أصحاب مطالب، وثورة من يؤمن تماماً بأنه صاحب حق.
ويخطئ من يعتقد أن الفكرة من ثورة الناس تغيير شكل فى الديكور والرموز السياسية، إنها حركة شعبية لإحداث تغيير جذرى فى قواعد النظام السياسى بأكمله، لذلك فإن أى محاولة للالتفاف على حقوق المتظاهرين هى وصفة مؤكدة للجحيم!
إنها محاولة لقيام نظام سياسى جديد بقواعد جديدة، وبوجوه جديدة.
الطبقة السياسية التقليدية قاومت وسوف تقاوم حتى الموت أى محاولة للتغيير والإصلاح المطلوب من الثوار.
أدرك رئيس الوزراء المستقيل سعد الحريرى 3 أمور لم ينتبه إليها أنصار السلطة التقليدية:
1- أنها ثورة شعب لن يتراجع وليست حركة مطلبية مؤقتة.
2- أن التغيير يجب أن يكون حقيقياً وليس شكلياً دون محاولة للالتفاف على مطالب الناس بأى شكل من الأشكال.
3- أن مطلب الناس هو الخلاص من الطبقة السياسية التى استبدت به ونهبته، والتى عانى منها والده الشهيد رفيق الحريرى، والتى يعانى هو أيضاً منها حتى كتابة هذه السطور.
كلاهما، الناس وسعد الحريرى، دفع فاتورة غالية.
الإشكالية أن الانطباع الآن أن البعض لا يرى أن «الحريرى»، ومعه لبنان، وتيار المستقبل، هم ضحايا تسوية داخلية عابرة للحدود ذات بعد خارجى إقليمى.
أى محاولة، بعد رفض «الحريرى» أن يشكل الحكومة، للالتفاف على مطالب الناس من خلال اختيار حكومة مواجهة تحقق أهداف وبرامج تحالف التيار العونى، والثنائية الشيعية، محكوم عليها عاجلاً أو آجلاً بالفشل لأنها سوف تصطدم -حكماً- بعدم رضاء الجماهير، التى أصبحت أهم طرف على مائدة تقرير مصير البلاد والعباد.
ذلك أيضاً سوف يعيد مرة أخرى حالة الاستقطاب الحاد بين ما يُعرف بـ14 أذار و8 آذار.
أخذ سعد الحريرى أهم وأصعب وأدق قرار سياسى فى تاريخه.
ببساطة، وبصعوبة أيضاً، اختار سعد الحريرى رغبة الناس، واحترامه لنفسه.
كان سعد الحريرى يأمل أن يتم تجاوز الحدث بتشكيل حكومة ترضى الشارع، وتحقق حلمه القديم بعمل حكومة تكنوقراط تتوافق مع مشروعه لإنقاذ لبنان وهو مشروع «سيدر».
الآن كل شىء مطلق فى الهواء: إنقاذ البلاد والعباد، مشروع «سيدر» بلا مستقبل، عودة السياحة فى علم الغيب، نجاح الهندسة المالية للمصارف، عودة الوظائف، كل ذلك مستحيل!
هذه الحكومة الجديدة، حكومة المواجهة التى شُكّلت «بالعناد وبالتصدى وبالمواجهة» مع مطالب الناس، يصعب أن تتشكل ويستحيل أن تستمر طويلاً، هى تمهيد مدمر لفتنة طائفية، وخراب مالى، وفوضى سياسية.
قبل 17 أكتوبر 2019 كانت أقطاب الطبقة السياسية اللبنانية تستطيع أن تفعل ما تريد، بأى صيغة تشاء، دون أن تعبأ إطلاقاً بأى رد فعل للرأى العام.
اليوم، حدث متغير رئيسى وجوهرى، وهو أن الشارع، قبل الطبقة، هو صاحب الكلمة الفصل التى لا يمكن خداعها أو الالتفاف عليها أو مواجهتها.
ما حدث فى الساعات الأخيرة هو «انقلاب مدبر» كما سماه رئيس الوزراء تمام سلام.
هذا التدبير خطأ سياسى تاريخى.