تدخل «واشنطن» هذه الأيام وفى الأسابيع القليلة المقبلة مرحلة جديدة أكثر قسوة من الضغوط على إيران وحلفائها الإقليميين فى اليمن وسوريا ولبنان وفلسطين.
وتؤكد المصادر القريبة من الإدارة الأمريكية أن هناك تنسيقاً أمريكياً - إسرائيلياً، وتفاهماً بين جهازى الأمن فى البلدين على تحميل «حزب الله اللبنانى» مسئولية إدارة عمليات دعم إيران فى «صنعاء وبيروت ودمشق وغزة».
وترى هذه المصادر أن أحد الأهداف الاستراتيجية فى العقوبات القاسية التى تقوم بها الإدارة الأمريكية ضد إيران، هو استهداف «حلفاء إيران فى المنطقة بهدف إضعاف أدوارهم الداخلية وتقليص حجم تأثيرهم فى الأوضاع الإقليمية».
وتتخفى الإدارة الأمريكية فى هذه الإجراءات تحت شعار «مكافحة الإرهاب»، وتحاول دائماً أن تعطى غطاءً سياسياً وأخلاقياً لعقوباتها ضد إيران على أساس أنها جزء من حربها ضد إرهاب «طهران».
وجاء فى تقرير أخير للخارجية الأمريكية ما ينص على أن واشنطن «ما زالت تعتبر إيران أسوأ دولة راعية للإرهاب فى العالم».
واعتبرت الخارجية الأمريكية أن حلفاء إيران مثل «حماس» و«الجهاد الإسلامى» و«الحوثيين» و«حزب الله» هم من الجماعات الإرهابية، على حد وصف التقرير.
وجاء فى التقرير أن إيران أنفقت خلال العام الماضى قرابة المليار دولار على دعم حلفائها فى المنطقة.
وأكد التقرير أن العام الماضى شهد 8093 عملية إرهابية أسفرت عن مقتل وإصابة 32862 شخصاً، وأن 75٪ من هذه العمليات تمت فى دول شرق أوسطية أهمها: سوريا، العراق، اليمن، باكستان، الصومال، نيجيريا.
وتجاهل التقرير تماماً ما قامت به إسرائيل ضد الفلسطينيين، وما قامت به قوات التحالف الأمريكى الأوروبى فى العراق وسوريا ضد مدنيين، وما قامت به قوات الغزو التركية فى العراق وشمال سوريا.
سياسة التصنيف الانتقائى والعقوبات العمياء التى لا تفرق بين الأنظمة والشعوب هى إحدى «كوارث إدارة ترامب» فى التعامل مع ملفات المنطقة، وأهمها الملف الإيرانى.
ولا يخفى على من يتابع ما نكتب خلافنا الشديد مع الرؤية الاستراتيجية للنظام الإيرانى وسياساته العدوانية وتدخلاته الخطرة فى شئون المنطقة، ورغم رؤيتنا هذه فنحن نحذر من أن سياسات إدارة «ترامب» سوف تزيد من توتر وعصبية وأخطاء طهران وليس العكس.
لا ترى «طهران» الآن أن هناك فائدة فى التفاوض المباشر قريباً مع الرئيس الأمريكى ودعمه بشكل غير مباشر فى معركته الرئاسية وتأجيل هذا اللقاء لحين معرفة إجابة واضحة وقاطعة عن مستقبل «ترامب» السياسى الذى يعيش على حافة التهديد السياسى بالعزل كأقصى حد، أو فقدان كثير من الأصوات كحد أدنى.
إيران المتوترة، المخنوقة اقتصادياً، تعانى بشدة من مثلث الاختناق: دولياً وإقليمياً -والأخطر- محلياً، بعد أن أصبحت الظروف المعيشية لملايين الإيرانيين الكادحين شديدة الصعوبة عليهم بشكل مخيف.
ويعتقد أصحاب فلسفة العقوبات فى «واشنطن» أنها سوف تؤدى بالضرورة إلى سرعة إسقاط نظام ولاية الفقيه فى إيران.
هذه الرؤية تفتقر إلى القراءة العميقة بطبيعة تركيبة النظام الإيرانى من الداخل وتقع فى 4 أخطاء جوهرية:
الخطأ الأول: أن «واشنطن» تعامل النظام الإيرانى وكأنه نظام مدنى بلا مرجعية دينية، وهى مكون رئيسى فى حالة «الولاء الجماهيرى» لكثير من قطاعات المجتمع وشرائحه.
الخطأ الثانى: أن منصب المرشد الأعلى فى إيران والحوزة الدينية ليسوا مجرد مسئولين سياسيين يحتلون مناصب بحكم الدستور والنظام العام، ولكن لديهم نوع من الاحترام الطائفى والهيبة السياسية التى تنبع من المذهب الاثنى عشرى الشيعى الذى يقوم عليه حكم «الولى الفقيه».
الخطأ الثالث: أن التاريخ قد علّمنا، وهو خير معلّم، أن أفضل طريقة لأى سلطة مسيطرة تعيش حالة من الحصار هى الهروب إلى الأمام، بمعنى اختراع عدو خارجى والتصعيد العسكرى معه، حتى تغطى على أزمتها الداخلية وتعطى الأولوية والصدارة للعدو الخارجى واعتباره مصدر التهديد الأول.
ويكفى كل المواقف والعمليات والأعمال التى قام بها الحرس الثورى الإيرانى خلال العام الماضى ضد أهداف غربية وأمريكية بحرياً وجوياً بهدف استفزازهم وتحقيق حالة الاشتباك مع هذا «العدو».
الخطأ الرابع: أنه إذا كان الضغط بالعقوبات على إيران قد أدى إلى الانخفاض الشديد فى الدعم التقليدى الذى كانت تمنحه «طهران» لحلفائها الإقليميين قد أعطى آثاره المباشرة فإن ذلك لا يعنى -بالعمق- تراجع الحلفاء عن مواقفهم السابقة أو تطويعهم السياسى للقبول بما كانوا يرفضونه فى السابق، بل على العكس، فإن ذلك يؤدى - وبالفعل أدى - إلى توتر شرس ورد فعل أكثر غضباً وسلبية ضد خصومهم المحليين.
وهنا نتذكر المفكر الاستراتيجى «ليدل هارت» حينما قال: «لا تحكِم دائرة الحصار تماماً على عدوك وإلا أصبح انتحارياً».
فى هذا المجال إن كان هدف «واشنطن» هو تطويع إيران وحلفائها من خلال العقوبات فإن ذلك إذا وصل إلى مرحلة «الخنق الكامل» فإنه سوف يؤدى بالضرورة إلى الانفجار غير المحسوب تحت منهج «علىّ وعلى أعدائى» فى ظل إيمانهم الكامل والدائم بأنهم يتعرضون تاريخياً لمظلومية لا نهائىة.