منذ أيام وعلى مائدة عشاء فى عاصمة عربية ضمت مجموعة محدودة من صناع القرار، تساءل أحدهم: «وهو.. إيش موقف الإدارة الأمريكية من المصايب اللى بتحصل دلوقتى فى المنطقة؟».
خيّم الصمت على الجميع، وبدأ كل فرد من الحضور يفكر فى إجابة صادقة عن هذا السؤال.
الجميع يعرف سلفاً أن الإجابة الحقيقية عن دور واشنطن، والرئيس ترامب فى ما يحدث الآن تبعث على أقصى حد من حدود الاكتئاب السياسى!
بشكل واقعى علينا أن نعترف أن الرئيس الأمريكى، وهنا نتحدث عن أى رئيس أمريكى، يكون عادة فى مثل هذا التوقيت من نهاية مرحلته الرئاسية الأولى منشغلاً تماماً وكلياً فى تأمين فرص فوزه فى الفترة الرئاسية الثانية.
أى رئيس أمريكى فى هذا الظرف، تركيزه الأول والأخير على الداخل الأمريكى، وعلى الحصول على رضاء ناخبيه، وعلى اكتساب جمهور جديد إلى معسكره، وإلى ضمان نزول قاعدته الانتخابية إلى لجان التصويت، وإلى تأمين التبرعات المالية وتعبئة المتطوعين فى المعركة الرئاسية.
وأى رئيس أمريكى لن ينشغل بملف السياسة الخارجية إلا بقدر ما يخدم هذا التدخل قاعدته الانتخابية، بمعنى إذا تقرب الآن من المكسيك، فهذا يرجع أساساً لجذب الصوت اللاتينى، وإذا منح إسرائيل حق ضم المستوطنات فى الضفة، فهذه رشوة للصوت اليهودى الصهيونى.. وهكذا.
هذا فى حال لو كان الرئيس الأمريكى يمر بظروف اعتيادية، وليس مهدداً بالعزل السياسى من قبل الحزب الديمقراطى، مثلما هو حادث الآن مع الرئيس دونالد ترامب.
الأيام المقبلة سوف تجعل من دونالد ترامب ثالث رئيس أمريكى يتعرّض للمساءلة من مجلس النواب، ويطرح أمر طلب عزله على مجلس الشيوخ، ليصبح ثالث رئيس يتعرّض لهذا الأمر بعد الرئيسين جاكسون وكلينتون.
مجلس النواب الأغلبية فيه ديمقراطية، أما مجلس الشيوخ فالأغلبية للحزب الجمهورى.
ويواجه «ترامب» اتهامات بسبب ضغطه على أوكرانيا من أجل قيام السلطات فيها بالتحقيق مع منافسه «جو بايدن»، ومحاولة عرقلة أعمال الكونجرس واعتراض سير العدالة.
وحتى يتم عزل الرئيس الأمريكى -بالنص الدستورى- فإن هناك لوائح واضحة نص عليها الدستور الأمريكى قد تدفع بالكونجرس إلى إجراء محاكمة له يمكن أن تبدأ فى أوائل يناير المقبل على حد تأكيد السيناتور ميتش ماكونيل زعيم الأغلبية الجمهورية فى مجلس الشيوخ.
انشغال ترامب الآن بأربعة ملفات:
1 - إجراءات محاولة عزله.
2 - تأمين قاعدة قوية من الداعمين له من أعضاء مجلس الشيوخ من حزبه الجمهورى، وعلى رأسهم «ميتش ماكونيل».
3 - استكمال تأمين عملية التمويل اللازمة لمعركته الانتخابية.
4 - البحث عن أى عناصر نجاح فى الداخل أو الخارج يمكن «الارتكان» عليها فى معركة التسويق السياسى الكبرى التى يعتمدها فى سياسته «الشعبوية» الجماهيرية.
بالتأكيد يزعج الرئيس استمرار عمليات تجارب الصواريخ الباليستية فى كوريا الشمالية، واستمرار تحدى الصين لسياسته فى المقاطعة التجارية، ويزعجه الاضطراب فى العراق ولبنان وازدياد النفوذ الروسى فى المنطقة، وحماقات «أردوغان» المستمرة من العراق إلى سوريا، ومن اليونان إلى ليبيا.
كل ذلك مهم، لكنه ليس فى دائرة اهتماماته الآن، وليس فى صدارة أولويات جهده السياسى اليومى.
من هنا حتى نوفمبر 2020، لا ينطق الرئيس الأمريكى بكلمة، ولا يوقع قراراً، ولا يسافر فى رحلة خارجية، ولا يعقد مؤتمراً فى الداخل إلا إذا كان ذلك فى خدمة معركته الانتخابية، وليذهب ما هو غير ذلك إلى الجحيم!!
ما يقوم به «بومبيو» فى الخارجية و«آسبر» فى البنتاجون هو إبقاء عجلة الحركة دائرة، ولكن بلا فاعلية أو تسويات نهائية.
لذلك كله نرى وزارة الدفاع تتابع بقلق التحركات التركية فى المتوسط، وتسعى لاستيضاح وزير الدفاع التركى عن مغزى تهديدات الرئيس التركى بإنهاء عمل قاعدة «أنجرليك».
ولهذا كله، نرى «بومبيو» يعطى تصريحات قلقة عما يحدث فى شوارع العراق وإيران، ويرسل مبعوثين إلى بيروت لتفقد أبعاد الأزمة اللبنانية.
الجهد الأمريكى الآن سطحى شكلى مؤجلة فاعلياته حتى حسم الرئاسة الأمريكية المقبلة.
هنا يسأل صناع القرار فى المنطقة: ماذا نفعل مع استمرار التمدد الإيرانى؟ وماذا نفعل مع جنون وحماقات مغامرات أردوغان؟ وماذا نفعل مع استمرار ابتزاز نتنياهو للرئيس الأمريكى على حساب الأرض العربية المحتلة؟
باختصار.. ماذا نفعل مع انفجارات إقليمية يغيب عنها رئيس مجلس إدارة أهم دولة فى العالم؟!
للوهلة الأولى، قد يبدو ذلك خطراً عظيماً، لكنه -فى حقيقة الأمر- قد يكون نعمة عظيمة تجعلنا «ننضج سياسياً» و«ننفطم استراتيجياً» عن اللجوء الدائم لـ«ماما أمريكا» فى حل مشاكلنا.
آن الأوان كى تعتمد القوى الحكيمة العاقلة فى العالم العربى وشرق البحر المتوسط على تحالف «الاعتدال» لحماية مصالح المنطقة من 3 مشروعات مدمرة: تركية عثمانية، إيرانية فارسية، إسرائيلية صهيونية.
علينا أن نستغل تلك الفترة الزمنية الضيقة من الآن حتى نوفمبر 2020 لبناء وتنمية قدراتنا الذاتية، وبعد ذلك نستطيع أن نقول: «فاصل ونواصل».