كل ما نشهده فى المنطقة الآن من عنف ودماء هو نتيجة مؤامرة! نعم مؤامرة لكنها ليست خارجية بقدر ما هى مؤامرتنا نحن على أنفسنا! إنها حالة من «الانتحار الجماعى» لمجموعات من البشر قررت أن تستبدل العقل بالجنون، والتسامح بالكراهية والتعايش والإنسانية بالتصفيات الجسدية، والتفاهم الفكرى بالإلغاء التام للآخر!
ومنذ أكثر من نصف قرن ونحن نعيش فى منطقة يسودها العنف اللفظى، وخطاب الكراهية العرقى، القبلى، العنصرى، الطائفى، المذهبى.
باختصار نحن نعيش فى منطقة غاب عنها التسامح فاستحالت فيها أى صيغ للتعايش!
لا تسامح يعنى لا تعايش، ولا تعايش يعنى لا سلم أهلى، ولا سلام يعنى لا استقرار، ولا استقرار يعنى لا وطن، واللاوطن، يعنى اللا شعب، واللا شعب يعنى اللا دولة، واللا دولة وطنية يعنى التقسيم والتشرذم والفوضى.
هكذا تضيع الأمم، وهكذا تنهار الحضارات، وكما يقول المؤرخ العظيم «أرنولد توينبى»: «الكراهية تعنى الثأر، والثأر يدمر الحاكم والمحكوم إذا أصبح أسلوباً للحياة».
انظروا، كيف أدى الفكر القبلى العائلى، الطبقى، العنصرى، الدينى، الثأرى، إلى بدء فتح ملفات قضية مذهبية عمرها 1400 عام فى العراق.
انظروا كيف أدى ذلك إلى قتل أكثر من 600 ألف إنسان وإنسانة، ولجوء ونزوح أكثر من 12 مليوناً، وإعاقة أكثر من 3 ملايين، وخسارة نصف تريليون دولار من الأملاك والعقارات والبنية التحتية فى سوريا.
انظروا إلى جنون الطائفة والمذهب والقبيلة والجهة والمنطقة فى اليمن الذى أدى إلى اندلاع حرب مدمرة أكلت الأخضر واليابس فى دولة تعانى من تحديات اقتصادية مخيفة.
نحن نعيش فى زمن نعطى فيه لمعيار القبيلة والمنطقة والطبقة والطائفة والمذهب والجنس والعرق واللون الصدارة فى قراراتنا وأسلوب حياتنا العامة والخاصة.
فاتنا، بل أغفلنا أو تغافلنا أن معيار ماهية الإنسان هى فى حجم إنسانيته قبل أى معيار آخر.
كان أمية ابن أبى السلط يردد دائماً: «إذا كان أصلى من تراب فكل أرض الله بلادى وكل العالمين أقاربى».
من هنا لا بد دائماً أن نعلى قيم التسامح من أجل التعايش لنزع الغلو والعنف من نفوس العباد، ولنتذكر قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لزوال الدنيا جميعاً أهون على الله من سفك دم بغير حق».
كان الإمام الشافعى يقول: «أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان».
نحن نعيش منذ سنوات سلسلة من الحروب استمرت أكثر من 62 عاماً على الأقل، وما زالت تدمر وتقتل حضارة من أقدم حضارات العالم.
وما يحدث الآن فى ليبيا هو استمرار لهذا الجنون، وما كان قبل ذلك فى الصومال ورواندا ومالى وتشاد ويوغوسلافيا السابقة وأفغانستان هو نقطة من بحر هذا الجنون القائم على اعتماد سياسات الثأر والكراهية والابتعاد عن التسامح والتعايش.
ولكن ماذا نعنى بـ«التسامح» و«التعايش»؟
التسامح يأتى من السماحة، وهى إذا ما دخلت فى شىء زانته وإذا خلت منه شانته.
التعايش يأتى من إحياء الأشياء والقيم.
نحن مجتمعات لم تعرف إشاعة التسامح فى ثقافتها الوطنية، لذلك لم نتمكن من التعايش، فاستحالت الحياة وبدأت الكراهية والاقتتال والحروب الأهلية.
لذلك كله، كان هاماً جداً، وسابقاً لمدارس التفكير التقليدى أن تتأسس فى الإمارات المتحدة ثقافة التسامح والتعايش، وأن يكون لها وزارة، ووزير، ومنهج، ورسالة ودور.
العقل التنفيذى الأول لهذه الوزارة هو الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، الذى كان أحد عناصر التنوير وتطوير التعليم منذ أن شغل منصب الرئيس الأعلى لجامعة الإمارات عام 1976 وكليات التقنية العليا عام 1988 وجامعة زايد 1998 ثم وزيراً للتسامح منذ عام 2017.
يطبق الشيخ نهيان هذا التسامح عملياً، ويحقق منهج التعايش فى حياته اليومية، فالرجل يؤمن بأنه لا قيمة لمبدأ لا يمارس عملياً، ولا لشعار لا يصدقه الواقع المُعاش.
حينما تعامل مجلس الشيخ نهيان تتمنى أن كل مجالسنا وبيوتنا تكون مفتوحة العقل والقلب، مثل عقل وقلب صاحبه.
فى مجلس هذا الرجل، ترى كاهناً مارونياً، وشيخاً شيعياً، ومفكراً بوذياً، ورجل دين هندوسياً، وراهبة بروتستانتية، وممثلاً للكنيسة القبطية فى الإمارات.
فى هذا المجلس ترى البسطاء وأصحاب الأعمال، ورجال الدين والمفكرين، والدبلوماسيين والساسة.
كل هؤلاء فى مجلس واحد مجتمعون قبل وبعد صلاة الجمعة ويتناولون معاً طعام الغداء فى سلام ومحبة وسكينة.
تحتوى الإمارات على أرضها أكثر من 83 ديانة وطائفة ومذهباً تمثل أكثر من 180 جنسية، لم نسمع يوماً عن مشاحنات أو مصادمات طائفية أو عنصرية بينهم، حتى لو كانت محتدمة إلى حد الاقتتال فى بلادهم، لكنها لا تؤثر على علاقاتهم فى الإمارات.
لماذا يقتتلون فى بلادهم ويتسامحون ويتعايشون فى الإمارات؟ لماذا لا يتقاتل المسلم والمسيحى أو السنى والشيعى أو السيخ الهندى والمسلم الباكستانى؟
إن مصدر الاقتتال هو العنف، والعنف يبدأ من فكرة فاسدة جاهلة، إذا تم التعامل معها بعلم واستنارة وتسامح وحوار وتعقل تم القضاء على مستصغر الشرر قبل أن يتحول إلى نار تلتهم الأخضر واليابس.
الذين يتقاتلون فى سوريا كبروا على سيادة طائفة حاكمة ضد الأخرى، دستور المظلومية الشيعية فى العراق له جذوره التاريخية التى تمت تغذيتها فى حكم البعث، والتميز القبلى فى عهد القذافى هو أساس قوى لخلاف الشرق والغرب الليبى قبلياً ومناطقياً.
انظروا إلى لبنان، كيف تم تركيبه طائفياً منذ عام 1943 حتى تعلموا أن منطق الدولة الوطنية قد غاب عنه فى التعليم والثقافة والإعلام، وحصص العمل والنظام الانتخابى والمحاصصة الطائفية فى كل شىء وكل مجال.
وفى التعديل الحكومى الأخير أضيف إلى وزارة التسامح مسمى ووظيفة أخرى هى التعايش، بحيث أصبح وزارة التسامح والتعايش، ووزيرها المسئول هو الشيخ نهيان بن مبارك.
من التجربة أصبح واضحاً أن التسامح لا يمكن أن يبقى حبيس شعار أو مبدأ، ولكن يجب أن ينطلق من كونه ثقافة وطنية تم إطلاقها طوال العام الماضى، حتى أصبح شعاره عام التسامح فى الإمارات، إلى أن يصبح أسلوب حياة.
التسامح هو المصل الواقى من الكراهية، والتعايش هو الدواء من فيروس العنف القاتل.
يا عرب بدلاً من شراء أسلحة للقتل طوروا مناهج التعليم، وبدلاً من إطلاق قنوات تليفزيونية للتحريض بكافة أشكاله علموا الناس التسامح للتعايش.
إن الخلل العظيم فى تفسير كل ما يحدث لنا فى المنطقة العربية هو تفسير كل ما يحدث على أنه مؤامرة كونية كبرى!
نعم، هناك مؤامرة، ومؤامرات من الأتراك والإيرانيين والإسرائيليين، ومن الروس ومن الأمريكان، ومن العلمانيين والمتأسلمين، ومن الرجعيين والليبراليين، باختصار الجميع يتآمر على الجميع!
لكن ذلك ليس هو السبب الرئيسى لمصائبنا، ولكن يرجع إلى تحول المنطقة العربية، سابقاً، وحالياً، ولسنوات طويلة لأكثر مناطق العالم اليوم ظلماً وعدواناً، وفساداً، وقلة شفافية، واستبداداً، تمارس فيها كل أشكال العنف والطائفية والقتل على الهوية، ويعيش فيها المواطن حالة من الحرب الأهلية التى يمارس فيها الاقتتال بكافة المستويات.
ما أحوجنا نحن العرب إلى إشاعة التسامح وتخصيص جهات تنفيذية مدعومة بقوة لتحقيق ذلك. لماذا؟
تقول الإحصاءات إن نصف ضحايا الحروب والنزاعات فى النصف قرن الأخير من العرب!
وتقول الإحصاءات، وحسب دراسة فى جامعة واشنطن وجامعة جونز هوبكنز، إن سوريا والعراق واليمن ولبنان، بالإضافة إلى أفغانستان وإيران هى أكثر دول العالم فى ضحايا الحروب الأهلية؟
المأساة والمؤلم، أن هؤلاء يجمعهم خط واحد أنهم عرب، شرق أوسطيين من دول إسلامية؟
إذن أين الخلل؟
لا يمكن أن يكون الخلل فى الإسلام أو فى الأديان؟
لم يبعث أى نبى أو رسول ممن حدثنا عنهم سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام، والذين حصرهم فى أكثر من 121 ألف نبى ورسول منذ بدء الخليقة، إلا وكان يدعو للتسامح والتعايش والإخاء والمساواة وحفظ النفس والمال والعرض والأوطان.
العيب ليس فى الأديان، ولكن فى بعض الجهلة أو أصحاب الغلو فى الفكر. وليس العيب فى الإسلام العظيم ولكن فى بعض المسلمين الذين تبنوا الإرهاب التكفيرى وأسموه ظلماً وبهتاناً الجهاد المقدس!