د. وحيد عبدالمجيد
كشف التدهور السريع للأوضاع في العراق وفلسطين بعض مواطن الضعف التي تنطوى عليها أزمة السياسة الخارجية المصرية بسبب تراكم عوامل التجريف التي تعرضت لها البلاد على كل صعيد لأكثر من ثلاثة عقود. فالمشكلة ليست في نوع الموقف الذي اتخذته مصر تجاه العدوان الإسرائيلى الجديد على قطاع غزة ومدى ضعفه أو قوته في حد ذاته، ولا في مدى سلامة تقدير الأوضاع الملتهبة في العراق فقط، بل في حاجته إلى رؤية جديدة متكاملة لسياستنا الخارجية في مجملها.
فقد تبنى النظام الأسبق سياسة أدت إلى انكفاء تدريجى ترتب عليه فقدان دور مصر الإقليمى العربى والأفريقى ورهنها لعلاقة تقوم على نوع من التبعية الجزئية حيناً والشاملة حيناً آخر للولايات المتحدة. ولم تكن هناك فرصة في الفترة التي أعقبت ثورة 25 يناير لمراجعة هذه السياسة، بل تفاقمت أزمتها أكثر في ظل سلطة «الإخوان» ثم نتيجة التداعيات الإقليمية والدولية التي ترتبت على إزاحة هذه السلطة. ولذلك آن الأوان لوضع رؤية تحدد طبيعة المصالح المصرية الاستراتيجية والتكتيكية ومصادر التهديد في كل من المدى القصير والمتوسط والأمد البعيد، وتصنيف هذه المصادر وفقاً لأولوياتها من ناحية وسبل وسائل التعامل معها. وكلما كانت هذه الرؤية متكاملة، صارت أهداف السياسة الخارجية ووسائلها واضحة وأصبح التعامل مع المشاكل والأزمات والنزاعات الإقليمية، وكذلك الدولية، أكثر سهولة أو أقل صعوبة. وعندئذ تتجاوز سياستنا الخارجية الأزمة الناتجة عن تراكمات عدة عقود حكم فيها مصر من لا يعرفون قدرها. وليس ممكنا عزل عملية بناء رؤية متكاملة للسياسة الخارجية في لحظة تتسم بسيولة شديدة في التفاعلات الإقليمية، فضلاً عن اضطراب في قمة النظام العالمى، عن التطورات المحيطة وخاصة حين تكون استثنائية في معدل سرعتها ومستوى كثافتها. ولذلك لابد أن تبدأ هذه العملية بالإجابة على عدد كبير من الأسئلة نكتفى هنا بأكثرها جوهرية.
فثمة سؤال أول حاكم هو: هل نكتفى بترميم التصدعات التي أصابت سياستنا الخارجية في العقود الأخيرة وتقليص الخسائر التي ترتبت عليها هنا أو هناك، أم نطمح إلى بناء سياسة جديدة لا تهدف إلى استعادة قيادة إقليمية كانت لنا في عصر مضى بمقدار ما تسعى إلى قيام مصر بدورها الطبيعى الرائد الذي يليق بأول دولة في الشرق الأوسط عرفت طريقها إلى العصر الحديث قبل أن تتعثر خطواتها فيه. ويرتبط بذلك السؤال عن كيفية تحديد مصادر التهديد الرئيسية بمنهجية التقييم والفرز على نحو يحقق الانسجام في سياسة دولة رائدة بين مصالحها الوطنية ومصالح الدول والشعوب التي تحرص هذه الدولة على تدعيم العلاقات معها. ويثير هذا السؤال العام المحورى أسئلة عدة نكتفى منها الآن بأهمها لأنه يتعلق بسياسة مصر الخارجية تجاه أزمتى العراق وسوريا وامتداداتهما، وبعدد من المشاكل المرتبطة بهما، وهو عن التهديد الإيرانى للمصالح المصرية، والعربية عموماً، وتقييم مستوى هذا التهديد بعد أن تنامى خطر الإرهاب في مصر مجدداً وصار مصدراً للتهديد.
وقد أصبح هذا السؤال المتعلق بالتهديدين الإيرانى والإرهابى أكثر وضوحاً بعد التطورات الأخيرة في العراق، الأمر الذي يتطلب إعادة صوغه كالتالى: هل ستتصرف سياستنا الخارجية على أساس أن الخطر يتجسد فقط في تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي أعلن «الخلافة» الوهمية ونغفل ما يمثله خطر ابتلاع إيران هذا البلد من تهديد، وهل يمكن الفصل بين التهديدين أو عزل مجمل الأخطار التي تهدد العراق الآن بما فيها سيناريو استقلال كردستان المبالغ فيه عن تداعيات السياسة المذهبية المتطرفة التي انتهجها نظام نورى المالكى التابع لطهران؟ وهل كان ممكناً أن يتنامى نفوذ تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي سبق للقوى الوطنية والعشائرية في مناطق شمال وغرب العراق أن هزمته في صيغته السابقة وطردته من معظم هذه المناطق، أو أن تتدهور الأوضاع إلى الحد الذي يجعل دخول «البشمركة» الكردية كركوك ضرورة لمنع كارثة أكبر، لو كانت في العراق حكومة وطنية غير مذهبية أو طائفية ولا تابعة لإيران؟ وهل تدرك السياسة الخارجية المصرية أوجه الشبه بين محمد مرسى ونورى المالكى من حيث أن لكل منهما مرشداً عاماً أو أعلى وأهلاً وعشيرة (تنظيميين أو مذهبيين)؟
ويقودنا ذلك إلى السؤال المحورى الثالث، وهو: ألا تحتاج سياستنا الخارجية إلى التمييز بين تهديد تكتيكى وآخر استراتيجى، وبالتالى إدراك أهمية وضع حد لتأثير الوضع الداخلى وخاصة المعركة ضد «الإخوان» والإرهاب على هذه السياسة؟ وإذا كان السؤال الثانى يوضح مدى أهمية بلورة رؤية متكاملة لسياستنا الخارجية، فالسؤال الثالث يؤكد الأهمية القصوى للتعجيل بذلك لأن بناء سياسة خارجية تليق بمصر لا يتحمل انتظاراً.