بقلم د. وحيد عبدالمجيد
لا يحنلف اثنان يعرفان قيمة الابداع الفكرى على المفكر الكبير جورج طرابيشى الذى رحل عن عالمنا قبل أيام، وترك ميراثاً فكرياً شديد الثراء، يشمل هذا الميراث نحو مائتى كتاب بين مؤلفات وترجمات، فضلاً عن الدراسات والمقالات التى لا تُحصى.
لم يكتب طرابيشى إلا ليضيف معنى أو معانى وحتى ترجماته التى أسهمت فى تعريف كثير من القراء العرب بأفكار هيجل وفرويد وسارتر وغيرهم، حافلة بالحواشى الشارحة أو المفسرة أو الناقدة، أما مؤلفاته التى عبرت عن تغير أفكاره، وطريقة تفكيره، على مدى أكثر من نصف قرن، ففى كل منها رؤية تحث على التفكير.
انتقل، مثله مثل كثير من أبناء جيله (وُلد عام 1939) وبضعة أجيال تالية، بين مواقع فكرية عدة بدءاً بالقومية العربية، فالماركسية، وصولاً إلى ليبرالية منقوصة، وكانت كتاباته فى كل مراحله الفكرية غنية، لم يؤلف كتاباً إلا بذل فيه جهداً، وقرأ لأجله وبحث فى موضوعه. فالكتابة عنده رسالة، وليست مهنة، فى مختلف مراحله الفكرية.
وتدل قائمة كتبه، التى تحتاج فى حد ذاتها إلى تحليل مطول، على العمق الذى تميز به فى مختلف مراحله الفكرية منذ «الماركسية والمسألة القومية» 1969، و«الاستراتيجية الطبقية للثورة» 1970، وحتى المشروع الكبير عن نقد العقل العربى، الذى صدر فى خمسة مجلدات خلال النصف الثانى من العقد الماضى.
ولكن الطرابيشى ظلم فكره فى مرحلته الأخيرة عندما جعل خلافه مع الراحل الكبير أيضاً د. محمد عابد الجابرى محوراً لاهتمامه، وعنواناً لأكبر أعماله الفكرية على نحو أدى إلى إساءة فهمه من جانب بعض ناقديه.
لم يكن الطرابيشى فى حاجة لأن يمضى سنوات فى نقد أعمال الجابرى النقدية للفكر العربى، لأن ما بدأ نقداً لها تحول إلى مشروع فكرى كبير قائم بذاته يستحق أن يكون موازياً لمشروع الجابرى.
غير أن الصورة المرسومة لمشروع الطرابيشى هو أنه مجرد رد فعل على مشروع الجابرى، رغم أنه يرقى لأن يكون عملاً موسوعياً لمراجعة التراث الفلسفى اليونانى والأوروبى، وليس فقط التراث العربى الإسلامى.
ولو أن الطرابيشى تحرر من أسر خلافه مع مشروع الجابرى، وتبنى منهجاً أكثر إيجابية فى التعامل النقدى مع هذا المشروع، وقدم رؤية موازية تتضمن فى طياتها النقد الذى يريده سواء للجابرى أو لغيره، لما اختُزل على النحو الذى رأيناه فى بعض العناوين التى تصدرت نبأ رحيله مثل: (طرابيشى: ربع قرن فى نقد الجابرى).