د. وحيد عبدالمجيد
استمدت ثورة 30 يونيو إحدى أهم دعائم قوتها من القلق الذى ازداد على مستقبل الدولة المصرية ومصيرها منذ وصول جماعة «الإخوان» إلى السلطة. وكان الخوف من تحويلها إلى دولة دينية أحد أبرز دوافع هذا القلق الذى أنتج زخماً غير مسبوق لفكرة «الدولة المدنية» فى تلك الثورة وبُعيدها.
غير أن هذا الزخم أخذ فى التراجع بسرعة. وظهر أول مؤشر واضح لهذا التراجع فى المساومات التى حدثت بشأن النص المناسب لوصف طبيعة الدولة فى الدستور الجديد، بدءا باستبعاده من متنه ليكون النص عليه فى الديباجة فقط. غير أن هذا النص الذى أسفرت عنه المساومات فى النهاية اقتصر على مدنية الحكومة لا الدولة: (دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية).
ولا بأس فى هذا النص؛ لأن ما يضمن مدنية الدولة هو حكومتها بالمعنى الواسع، أى نظام الحكم فيها بكل مكوناته التنفيذية والتشريعية وبتأثيره القوى والمباشر على طريقة إدارة شؤون البلاد وقدرته – إذا رغب وأراد – على وضع الدين فى مكانه الطبيعى وهو الحيز الخاص للإنسان وإعادته بالتالى من الساحة السياسية التى تمدد فيها إلى هذا الحيز المرتبط بإيمان الإنسان وعلاقته بربه.
ولذلك لم تكن المشكلة فى النص نفسه بمقدار ما كانت فى منهج المساومات وما ينطوى عليه من دلالة على أن دور الدين لا يرتبط بمبدأ عام ثابت مستمد من معنى الدولة المدنية، بل بالظرف السياسى المتغير. ومؤدى هذه الدلالة أن موقع الدين ليس محدداً فى إطار الحيز الخاص، الأمر الذى يعنى استمرار حضوره فى الساحة السياسية والمجال العام رغم أن القلق من تنامى هذا الحضور كان أحد أهم دوافع ثورة الشعب فى 30 يونيو.
وتثير الوقائع التى تؤكد استمرار الدين فى المجال العام واستخدامه سياسياً سؤالاً ضرورياً عما إذا كان القلق الذى تنامى وساهم فى اندلاع تلك الثورة كان من دولة دينية «إخوانية» على سبيل التحديد أم من الدولة الدينية بوجه عام، وهل يزول خطر هذه الدولة أو حتى يقل لمجرد أنها ليست «إخوانية»؟ والحال أن استمرار حضور الدين فى المجال العام يحمل فى طياته خطر الدولة الدينية بغض النظر عن وجود «الإخوان» فيها من عدمه. ويظل هذا الخطر ماثلاً حتى إذا اختفى «الإخوان» تماماً، لأن هذا الخطر لا علاقة له بجماعة محددة أو بأخرى ولا حتى بدين أو مذهب دون غيره.
ومن الطبيعى أن تتباين التقديرات بشأن هذا الخطر حتى من جانب أنصار الدولة المدنية بمعناها الدقيق الذى يضع الدين فى مكانه الطبيعى فى إطار الحيز الخاص وبمنأى عن المجال العام والنشاط السياسى. ولذلك، فلكى يدقق كل منا تقديره لمدى هذا الخطر، وبعد أن تحدث الرئيس السيسى فى خطابه فى قصر القبة الأحد الماضى عن بناء دولة مدنية، نسوق هنا عدداً من الأسئلة الكاشفة التى يتعين أن نجيب عنها باستقامة:
- هل تعرف الدولة المدنية استخداماً للدين فى استفتاءات أو انتخابات؟ وهل يُعقل أن يصل هذا الاستخدام، حتى إذا حدث على سبيل الاستثناء، إلى الخلط بين العملية الانتخابية التى تنتمى إلى العصر الحديث والبيعة التى تناقض أسس الديمقراطية وتعود بالمجتمع إلى العصور الوسطى؟
- ما الفرق فعلياً بين الحث على المشاركة فى انتخابات والدعوة إلى مقاطعتها على أساس دينى، فيكون الذهاب إلى لجان الاقتراع حلالاً هنا وحراماً هناك؟ وهل يجوز أصلاً فى دولة مدنية تحويل الفتاوى الدينية إلى أسلحة سياسية تُشحذ فى مواجهة بعضها البعض؟
- إذا كانت القيم الأخلاقية ضرورة فى الدولة المدنية، وهى كذلك لأنها دولة مبادئ بحق، فهل يجوز ربط هذه القيم بدين واحد؟ وأليست القيم الأخلاقية مشتركة بين الأديان، وألا يُعد احترام هذه الأديان كلها أحد أهم الأسس التى تقوم عليها الدولة المدنية؟
- هل تتدخل أى مؤسسة دينية فى الثقافة العامة، ناهيك عن السياسة، فى الدولة المدنية؟ وهل ينسجم مع مقومات هذه الدولة مراقبة مؤسسة دينية للإبداع بمختلف أشكاله والسماح به أو منعه؟