لم يعد المصابون بالتوحد مع السلطة، حكاماً وحاشيات تحيطهم، في حاجة إلى استبدال إمبراطوريات بجمهورياتهم، بخلاف ما فعله نابليون بونابرت في 1814، ثم ابن أخيه لويس بونابرت في 1851، في فرنسا. كان كل منهما صريحاً وواضحاً في إشباع غريزته إلى السلطة من دون تحايل. أصبح أسلوب البونابرتين الأول والثالث قديماً في عالم يسوده الكذب أفعالاً، وليس أخباراً فقط.
لم يجد الرئيس الصيني شي جينبينغ، والحلقة الضيقة التي قَرّبها في السنوات الخمس الماضية، ضرورة لتنصيبه إمبراطوراً. اكتفى بأن يكون زعيماً، إلى جانب كونه رئيساً، مثل ماوتسي تونغ الذي ترك الصين خراباً يباباً.
اقترحت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الحاكم في 25 شباط (فبراير) الماضي إلغاء فقرة في الدستور كانت تنص على أن الرئاسة تُحدد بولايتين متعاقبتين كل منهما خمس سنوات، فضلاً عن إدراج فكر شي (في شأن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية) في الدستور، وهو ما لم يحظ بمثله من خلفوا ماو قبله. وصادق البرلمان في الشهر الماضي على اقتراحي اللجنة المركزية. فبدا أن الصين توضع على طريق قد تردها، في شكل جديد، إلى عهد ماو الذي اختزلها في شخصه، وتنهي حقبة تعاقب فيها ستة رؤساء على السلطة.
تبـــارى بعض أعضاء البرلمان في تـــقديم ذرائـــع تــدعم المخاوف من أن الصين قد تكون بــدأت رحلة الارتداد. قيل مثلاً إن التعـــديل الدستوري يعبر عن «الإرادة العامة الملحة للشعب»، ويحمي سلطــــة الحزب وقيادته، ويوائم الرئاسة مع منصب الأمين العام (تولاه شي في نهــــاية 2012 قبل أربعة أشهر على تنصيبه رئيساً). وهذا منصب غير محدد بفترة معينة، وإن كــــان كل من سبقوا الرئيس، الذي بات زعيمـاً بصفات إمبراطورية، اكتفوا بفترتين وفق التقليد الذي أرساه مؤسس النهضة الصينية الراهنة دينغ زياو بينغ.
يخشى معجبون بتجربة الصين في عقودها الأخيرة ارتدادها عن حقبة رائعة في تاريخها، وعودتها إلى حقبة نخرت خلالها سلطة ماو المطلقة في عظامها حتى النخاع. كان ماو حاضراً بقوة في كلمة شي التي ألقاها في 20 آذار (مارس) في ختام اجتماع البرلمان، الذي منحه السلطة المطلقة. وعد باتباع منهج الماركسية اللينينية (أين صارت؟)، وفكر ماوتسي تونغ، إلى جانب نظرية دينغ زياو بينغ، في ما بدا تعبيراً عن اعتقاد بإمكان الجمع بين الإنجاز الاقتصادي والسلطة المطلقة التي كانت قائمة قبل تحقيقه.
استخدم شي أيضاً بعض التعبيرات الماوية مثل المسيرة الكبرى. فعندما رسم ملامح المستقبل، ذكّر بالكفاح الذي خاضه الحزب الشيوعي تحت قيادة ماو، وتحدث عن مسيرة كبرى جديدة قال إنها تقود إلى تحديث البلاد. وتضمن حديثه يومذاك شيئاً من عنف لفظي ضد الأعداء لم يكن معتاداً في الخطاب الرسمي، منذ عهد ماو. فقد تحدث عن «معارك دامية خاضتها الصين»، وأشاد باستبسال الصينيين في خوض هذه المعارك.
وهكذا يبدو أن شي يعيد إنتاج السلطة الماوية المطلقة التي كان والده شي تشونغ شون ضحية لها خلال حملة تطهير في 1962، على رغم أنه كان أحد «أبطال الثورة»، وعمل نائباً لرئيس الوزراء، ثم زج به في السجن بسبب رأي أبداه في رواية اتُهمت بأنها تُسيء إلى الحزب. ولم يعُد إليه الاعتبار إلا في بداية الحقبة التي يبدو أن الصين قد ترتد عنها.
ولكن هل كان في الصين ديموقراطية لكــي يرتد شي عنها؟ بعض السائلين، وربما كثيرون منهم، يعرفون أن هناك مساحة بين الديموقراطية والديكتاتورية الكاملتين، وأن الصين تحركت خطوة مهمة في هذه المساحة في ظل تقليد القيادة الجماعية والخلافة المنظمة، وحققت إنجازاً اقتصادياً واجتماعياً مهولاً منذ أن بدأت ذلك التحرك ابتعاداً عن السلطة المطلقة الشاملة.
يرى من لا يجدون في احتمال ارتداد الصين خطراً عليها أن شعبها بات مستعداً للعيش تحت ظل إمبراطور جديد لمواجهة التهديدات. ولكن الصين جربت هذا النوع من العيش وفشلت، ولم تنجح إلا بتعديله. كما أن الحديث عن رغبة الصينيين في سلطة مطلقة جديدة من أجل مواجهة الغرب لا يبدو واقعياً، وهم الذين لم تعد لديهم عقدة نقص تجاه الآخر، وخاصة في لحظة تصرخ الولايات المتحدة من آلام العجز التجاري، وتحلم بخفضه من دون أن تستطيع، فتلوّح بحرب تجارية ستكون الخاسر الأول فيها.
لا يحتاج الصينيون إلى حكم مطلق جديد بات ممكناً، بعد أن نجح شي في ترويض مراكز القوة الحزبية والعسكرية والبيروقراطية، ووضع مقربين منه في مناصب رفيعة، واستخدم حملة أطلقها ضد الفساد لتعزيز سلطته خلال ولايته الأولى، على نحو جعل المكتب السياسي، الذي كانت لجنته تشكل قيادة جماعية، أقرب إلى هيئة صورية.
والسؤال المحوري المثار الآن هو عن إمكان المحافظة على النجاح الاقتصادي، الذي أدى إلى تحسين حياة ملايين الفقراء، ومن ثم توسيع نطاق الطبقة الوسطى، في حال تأكد حدوث الارتداد السياسي. ربما تحتاج الصين في هذه الحال إلى معجزة من النوع الذي يصعب تحقيقه، وليس من الصنف الذي حققته في العقود الأربعة الأخيرة، لتجنب أثرين سلبيين محتملين له. أولهما إضعاف القدرة على استمرار قوة الدفع التي بدأت باتجاه زيادة إسهام الصين في إنتاج تكنولوجيات جديدة تتطلب فتح مجالات أوسع أمام الإبداع والابتكار وتوسيع المجال العام على نحو يتعارض مع العودة إلى عبادة الشخص.
أما الأثر المحتمل الثاني فهو الإحباط الذي قد يصيب قطاعات من الطبقة الوسطى يراودها عادة طموح إلى المشاركة في رسم مستقبل البلاد عندما تُشبع حاجتها المعيشية. ففي الوقت الذي كانت هذه الطبقة تتطلع إلى إزالة العوائق المترتبة على نظام أحادي، وفتح المساحات المغلقة في المجال العام، إذا بها تفاجأ بأن الجزء الذي كان مفتوحاً فيه يُغلق، وبأنها ستصبح رهينة لدى سلطة مطلقة عرف مثلها قليلون من الصينيين- الذين يعيشون اليوم- في بواكير حياتهم، ويعلمون مدى صعوبة الحياة في ظلها.
نقلاً عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع