أضاعت المعارضة السياسية السورية وقتاً طويلاً في البحث عن نقطة توازن بين التمسك بمرجعيات دولية يعود أساسها إلى بيان جنيف الأول في 2012، ومحاولة بلورة مواقف تتماشى جزئياً مع تغير حدث في ميزان القوى على الأرض في السنوات التالية.
أخذت المسافة بين ثوابت المرجعيات ومتغيرات الواقع تزداد، من دون أن تتمكن من العثور على نقطة التوازن الصعبة التي ظلت تبحث عنها. توسعت الفجوة بين ما تسعى إلى الحفاظ عليه، وما باتت مضطرة للتخلي عنه، وبلغت اليوم مستوى ينذر بإخراجها من المشهد في حال تمكنت روسيا من وضع الأساس لإطلاق عملية سوتشي، بعد أن نجحت قبل عام في فتح مسار آستانة.
جديد روسيا، الذي تسعى إلى وضع أساسه في اليومين المقبلين، أن تصبح سوتشي بديلاً من جنيف التي أدى مسار آستانة وظيفته في إظهار عدم جدواها. وبغض النظر عن قيمة مخرجات مؤتمرات آستانة، فقد تميزت بحركية دينامية افتقرت إليها مؤتمرات جنيف الأخيرة التي باتت تبعث على السأم، فضلاً عن الإحباط.
وهكذا باتت المعارضة السورية في وضع يتطلب منهجاً جديداً في إدارة الصراع، أي نمطاً مختلفاً للتفكير في مكوناته، وفي التعاطي مع أطرافه، وإبداء مرونة تكتيكية قد تفيد في إنجاز شيء من أهداف الثورة في النهاية.
لم يعد مجدياً الرهان على قوى دولية وإقليمية تُغير مواقفها أحياناً بأسرع مما يُبدّل قادتها ملابسهم. وما الأهداف الخمسة التي أعلنها وزير الخارجية الأميركي تيلرسون في 17 الجاري، ومن بينها حل سياسي من دون بشار الأسد، إلا حلقة في سلسلة مواقف تتبخر بعد إعلانها. وليس متصوراً أن المعارضة السورية لا تعرف أن من يراهن على الولايات المتحدة وتركيا يشبه من يلتحف السماء. لكنها لا تجد خياراً آخر، لأن البحث عنه لا بد أن يبدأ بتغيير منهجها عبر إجراء ثلاث مراجعات مترابطة.
الأولى، مراجعة موقفها المعادي لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، ومسألة فيديرالية الشمال التي تقوم على إدارات ذاتية، وكذا إزاء القضية الكردية بوجه عام. هذا الموقف هو الوحيد، بين مواقف المعارضة، الذي يقترب من موقف نظام الأسد.
لكن هذا التقارب ليس إلا مؤشراً واحداً إلى خطأ كبير أضاف معركة لا لزوم لها إلى معارك ضرورية عدة خاضتها المعارضة، وحرمها فرصة لتدعيم موقفها عبر تفاهم مع حزب أثبت أنه لا يحمل مشروعاً تقسيمياً، بل يهدف إلى تأسيس نظام اتحادي (فيديرالي) يُفترض أن يسعى إليه كل من يتطلع إلى الديموقراطية ومشاركة السوريين في إدارة شؤونهم فعلياً. كما أن موقف المعارضة هذا قد يُشكّك في مدى إيمانها بديموقراطية باتت مستحيلة في ظل أي حكم مركزي يستطيع إعادة بناء ركائز الاستبداد التي أُقيمت على مدى عقود.
معلوم أن اعتماد بعض أطراف المعارضة وقادتها على تركيا يُمثّل قيداً عليها، ويُوظّفها في معارك الرئيس أردوغان وصفقاته المكشوفة والمستورة في آن، ويُشرك بعض فصائلها في غزوات تُراق فيها دماء أهلهم كما يحدث في عفرين الآن. غير أن القيد الأشد هو الموقف العدائي الموروث ضد حقوق الأكراد، والمنهج أو نمط التفكير المرتبط به. وفي حال تغيير هذا المنهج، يمكن أن تجد المعارضة سبلاً لتجاوز القيد التركي، مثل تولّي أطرافاً لا تعتمد على أنقرة مهمة التواصل وبناء تفاهمات مع حزب العمال الديموقراطي، في إطار نوع من تقسيم العمل الخلاَّق، تمهيداً لتبني موقف جديد معلن تجاهه في الوقت المناسب.
ويُفترض أن تقترن هذه المراجعة بثانية تهيئ للانتقال من الخطاب العام الذي يطالب بالالتزام بالمرجعيات الدولية، ويُعاد إنتاجه منذ سنوات من دون تجديد يُعتد به، إلى برنامج تفصيلي يتضمن الأسس التي يقوم عليها نظام سياسي جديد. والعلاقة وثيقة بين المراجعتين لأن تغيير نمط التفكير الموروث في القضية الكردية يقترن بالضرورة بتبنّي صيغة فيديرالية.
غير أن المعارضة لا تزال معنية بآليات الانتقال السياسي أكثر من طابع النظام الذي ينتج من هذا الانتقال، ومقوماته، وبتأكيد ضرورة استبدال نظام الأسد أكثر من بلورة الأسس التي يقوم عليها نظام جديد.
وفي حال إقدام المعارضة على التفكير جدياً في مقومات نظام ديموقراطي فيديرالي قد تخلص إلى أن ميزان القوى، الذي لا يسمح بتغيير النظام الحالي الآن، لا يحول دون الشروع في هذا التغيير تدريجياً عبر منهج جديد أكثر واقعية، وبرنامج محدد يمكن التفاوض عليه مع روسيا مهما كانت المرارات تجاه سياستها. وفي موسكو من يعرفون أن أي حل سياسي لن يصمد، وأن مصالحها في سورية ستكون مُهدَّدة، إذا لم تتحقق مشاركة واسعة في التوصل إلى هذا الحل. كما يعلم من يدرسون سياستها أن خطواتها في سورية كلها تكتيكية وقابلة للتغيير. وتستطيع المعارضة في حال تبنيها برنامجاً واقعياً أن تختبر موقف موسكو التي تبرر سياستها في سورية بعدم واقعية المعارضة.
وفي حال تأسيس هذا البرنامج على خطة لإقامة نظام ديموقراطي فيديرالي، تستطيع المعارضة التفاوض مع موسكو - التي كانت أول من طرح مسألة الفيديرالية – سعياً إلى تفاهم على أن تكون الأولوية مطلقة لإجراء انتخابات محلية أو بلدية في المناطق التي تتوافر فيها إمكانات هذه الانتخابات، تحت إشراف دولي، على أن يقترع النازحون في أماكن وجودهم الراهنة، لانتخاب إدارات ذاتية موقتة.
وسيكون موقف المعارضة في هذه الحال أقوى، ليس لواقعيته فقط، ولكن لمنطقيته أيضاً. فأياً تكن الصعوبات أمام انتخاب إدارات ذاتية، فهي لا تُقاس بمستحيلات تواجه إجراء انتخابات رئاسية أو برلمانية في الوضع الراهن. كما أن أي خسارة تترتب على خيار الانتخابات المحلية لا تُقاس بمصائب إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بموجب تعديلات دستورية شكلية تضفي شرعية زائفة على النظام. كما أن انتخاب إدارات ذاتية محلية موقتة يمكن أن يُحقّق هدفين لا بأس بهما. الأول، تواصل المعارضة السياسية مع بعض هذه الإدارات، لتدعيم حضورها في الداخل. والثاني، وضع البنية الأساسية لحل سياسي يرتكز على حوامل فعلية ترفعه، وليس على أوهام انتصار يخدع نفسه قبل غيره من يزعم أن نظام الأسد وحلفاءه حققوه.
فهل تستطيع المعارضة تغيير منهجها، وإجراء مفاوضات في العمق مع موسكو التي تبحث عن مخرج، لكنها تسلك حتى اليوم طرقاً ملتوية لا تقود إلى حل صراع يمكن أن تبقى، مثل غيرها، أسيرة تداعياته لفترة طويلة؟
نقلا عن موقع الحياه اللندنيه