د. وحيد عبدالمجيد
لا يتطلب الأمر جهداً كبيراً لملاحظة أن مصر اليوم ليست هى الوطن الذى عاش فيه المصريون ومن أجله منذ الربع الثالث فى القرن التاسع عشر وحتى نهاية الربع الثالث فى القرن العشرين،
وهى الفترة التى شهدت نقلة مهمة نحو إرساء قواعد التفكير النقدى وإطلاق طاقات الإبداع الفنى والأدبى.ظلت مصر على مدى أكثر من قرن، منذ أن بدأت طريقها إلى العصر الحديث وبناء دولتها الوطنية، رائدة. وكان عقلها وإبداع أبنائها مهنياً وحرفياً، وليس ثقافياً وفكرياً فقط، هما مصدر ريادتها.غير أن زمن الإبداع ذاك أخذ فى الانحسار تدريجياً منذ أواخر سبعينات القرن الماضى، حيث تعرض المجتمع لتجريف هائل اقتلع جذوره وعصف بعقله وثقافته وخرّب تعليمه وأوصله تدريجياً إلى حالة مؤلمة من التصحر تسودها التفاهة .إنه عصر «هات من الآخر» و «التيك أواى» و«السبوبة»، حيث لا وقت ولا صبر على العمل الجاد. ففى هذا العصر، عصر التفاهة، يكفى أن تأتى بحركة تسترعى انتباه من لا تجذبهم الفكرة المبدعة ولا يصبرون على ما يستلزمه تأملها. ويزداد هؤلاء يوماً بعد يوم بمقدار ما يقل الاهتمام بإعمال العقل والانشغال بالأفكار الجديدة والمعانى العميقة ناهيك عن الإبداعات.
وهكذا صارت «التفاهة» مستقرة على الأرض ومحلقة أيضاً فى فضاء الكترونى يبدو أقرب إلى هواء يملأ فقاعات تفرقع وتطير وتنتشر وتدور حول بعضها معارك طاحنة تُشهر فيها أسلحة الاتهام والتحريض والسب واللعن، وصولاً إلى الحض على الكراهية والقطيعة أو الصدام.
وليس الدم الذى لم تعد إراقته تثير انزعاجاً أو تستدر بكاءً إلا نتيجة «تفاهة» متزايدة حتى فى إدارة الصراع بأحط الأسلحة مثل التخوين والتكفير والإقصاء والإلغاء والاستئصال.
ورغم هذا كله، سيبقى غير قليل من المصريين على رجاء عودة مصر الوطن وليست ساحة القتال، وتجنب الاندفاع النهائى نحو كهوف التاريخ والإجهاز على ما بُنى خلال أكثر من قرن من الزمن.
نقلا عن "الاهرام"