بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
عُرف العصر الذى بدأ النور فيه يسطع فى عقول البشر بعصر التنوير. ولكن هذا النور لم يبدد ظلام الجهل والخرافة والتخلف بصوره كاملة حتى فى أوروبا التى ظهرت فيها أفكار التنوير فى القرن الثامن عشر. انتشرت هذه الأفكار فى مساحات واسعة من المجتمعات الغربية، ولكنها بقيت محصورة فى هوامش ضيقة فى منطقتنا. كما تآكلت هذه الهوامش فى العقود الأخيرة التى انتشرت فيها أفكار ظلامية تعتمد على إساءة تأويل بعض النصوص الدينية.
ولذلك وجد التطرف، ومن ثم الإرهاب، طريقاً مفتوحا فى بيئة ثقافية ـ اجتماعية ظل نور العقل فيها خافتا. وإذا عُدنا إلى مسارات التطور فى العصر الحديث نجد علاقة وثيقة بين أوضاع المجتمعات وحالة العقل فيها. وقد أصبحت هذه العلاقة أقوى فى الوقت الراهن بسبب التداعيات المستمرة لثورة الاتصالات والمعرفة.
لم تتقدم دولة فى هذا العصر إلا حين أشرق نور العقل فيها. وقد حاول بعض المثقفين العرب تنوير بلادهم وشعوبهم منذ أن بدأ احتكاكها بالغرب فى القرن التاسع عشر. ولكن الإخفاق ظل ملازماً لهذه المحاولات طول الوقت لأسباب داخلية وخارجية وفى آن معا..
لم تعرف المنطقة العربية عصراً متنوراً بالمعنى الأوروبى، وإن عرفت شيئاً من النور فى أوساط بعض النخب الثقافية. ولذلك ظلت الحداثة قشرة على سطح مجتمعاتها. وبقى السطح عازلا أبقى العرب فى الأغلب الأعم بعيدين عن التنوير العقلى.
وفى مسار الدول والمجتمعات، كما يُعلَّمنا التاريخ، اتجاهان لا ثالث لهما. أحدهما إلى الأمام، والثانى إلى الوراء. وحين يستعصى التقدم، لابد أن يزداد التخلف. ولذلك لم تستطع المجتمعات العربية التى شهدت إرهاصات تنوير فى القرن التاسع عشر أن تحافظ عليها أمام زحف الظلام.
وفى الوقت الذى خفت نور العقل والعلم والمعرفة، اشتد هذا الظلام، فازدادت محاولات التنوير صعوبة، وطغت على المشهد العام توجهات محافظة وأخرى أصولية، غذى بعضها البعض الآخر. فالانغلاق الذى تتسم به التوجهات المحافظة فى المجتمع هو الذى يحرث الأرض للتوجهات الأصولية، فيتنامى الميل إلى التعصب والتطرف فى بيئة اجتماعية ـ ثقافية ـ سياسية مازال الظلام فيها أقوى من محاولات أضاء نور فى جانب أو آخر منها.