كان إعلان المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار مبشراً فى حينه بتحرك فاعل رغم أنه جاء متأخراً بعد خمسة أيام على بدء العدوان الإسرائيلى. فقد بدت صيغة المبادرة التى اعتمدت منهج التوالى، أى وقف إطلاق النار وتليه المفاوضات، مناسبة فى وقتها.
فقد يكون ممكناً تحقيق وقف إطلاق النار بدون طرح إطار عام لاتفاق سياسى فى بداية أى صراع مسلح حين تكون خسائر طرفيه محدودة. غير أنه ما أن تزداد هذه الخسائر حتى يصبح صعباً وقف النار بدون إطار سياسى يتضمن عناصر يجد فيها كل طرف ما يتيح له تبرير موقفه أمام جمهوره.
غير أن الجمود الذى مازال قائماً فى إدارة السياسة الخارجية المصرية بوجه عام، نتيجة عدم تطوير رؤية جديدة لها على النحو الذى طرحتُه هنا فى عدد «المصرى اليوم» الصادر فى 18 يوليو الماضى، حال دون تطوير المبادرة فى هذا الاتجاه رغم وجود معطيات كانت مناسبة له فى أواخر الأسبوع الماضى.
فكان ممكناً إجراء هذا التطوير قبل وصول وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى إلى القاهرة، وسعيه بالتعاون مع بان كى مون، إلى تجريب منهج التوازى على مرحلتين عبر الدعوة إلى هدنة إنسانية لمدة أسبوع بأمل التوصل خلاله إلى صيغة لإطار عام يتضمن عناصر محددة.
وحاول كيرى استثمار التقارب الاضطرارى الذى حدث بين السلطة الفلسطينية وحركة «حماس». فقد تضمن العرض الذى طرحه مساء الجمعة الماضى العناصر الأساسية المتضمنة فى التصور الذى تلقاه من السيد محمود عباس باسم القوى الفلسطينية كلها. ولكنه فشل.
ولذلك يظل فى إمكان مصر أن تحقق التقدم الذى فشل فيه كيرى وأن تضع أساساً لاتفاق سياسى طويل المدى يحدث تغييراً كبيراً فى الوضع.
وتظل صيغة الهدنة الإنسانية الممتدة لعدة أيام مفيدة لتيسير التوصل إلى هذا الإطار العام. ولكنها ليست شرطاً فى حالة تعذرها، لأن الدبلوماسية النشطة والفاعلة تتحرك تحت أى ظرف. ومعلوم أن معظم النزاعات المسلحة تم حلها عبر مفاوضات أُجريت خلال القتال وليس بعد وقفه. ولكن من الضرورى، فى ظل الأوضاع الإنسانية المأساوية فى غزة، التوصل إلى وقف لإطلاق النار فى أسرع وقت استناداً إلى إطار عام يقبله الطرفان ويتضمن عناصر تُيسّر لكل منهما اتخاذ القرار الصعب بوقف القتال.
ويمكن أن يتضمن الإطار العام للاتفاق ما يلى:
1-بدء تشغيل المعابر كلها (وليس معبر رفح فقط) بالتزامن مع وقف إطلاق النار.
2-كشف الحقيقة بشأن الجندى الإسرائيلى المختفى ومبادلته أو جثته أو أشلائه – إذا كان ميتاً – بالأسرى الذين أعادت إسرائيل اعتقالهم مؤخراً.
3-تمركز قوة مراقبة أوروبية مؤقتة على الحدود، وخاصة فى المناطق التى تدعى إسرائيل وجود أنفاق تحتها، حتى انتهاء المفاوضات.
4-تحديد القضايا التى ستشملها المفاوضات التى ستبدأ بالتوازى مع وقف إطلاق النار، وأهمها الترتيبات الأمنية على الحدود بين إسرائيل والقطاع ووضع سلاح المقاومة وعملية إعادة الإعمار التى تشمل المطار والميناء.
وعندئذ قد يكون ممكناً إعلان وقف إطلاق النار بالتوازى مع بدء المفاوضات على هذه القضايا، والتى يبدو تجسير الفجوة بشأنها صعباً الآن. ولكن الأمر سيختلف على المائدة عند تشغيل المعابر واسترداد إسرائيل الجندى أو جثته واطمئنانها إلى الوضع على الحدود مع القطاع، وخاصة إذا أدارت الدبلوماسية المصرية المفاوضات بمهنية واحتراف وموضوعية.
ويتطلب ذلك البدء بالقضايا الأقل صعوبة مثل الترتيبات الأمنية التى يمكن أن تكون مماثلة لتلك التى تم التوصل إليها عقب العدوان على لبنان عام 2006، بحيث توضع قوات للأمم المتحدة بين إسرائيل وقطاع غزة.
وإذا أمكن التوصل إلى ذلك، سيكون الطريق قد صار أقل وعورة بشأن قضية سلاح المقاومة. سيكون المناخ العام قد تغير، بما فى ذلك المشهد الفلسطينى. فالمفترض أن تتولى «حكومة الوفاق» التفاوض من خلال وفد يمثل كل الفصائل بما فيها «حماس».
وعندئذ قد يكون ممكناً إيجاد صيغة لإشراف «حكومة الوفاق» على سلاح المقاومة، مع استمراره فى حوزة الفصائل، لأنه لن تكون هناك حاجة لاستخدامه فى حالة التزام إسرائيل بالاتفاق الذى يُفترض ألاّ يقل مداه الزمنى عن عشر سنوات.
ولذلك فالمهم الآن هو تحرير سياستنا الخارجية من الجمود الناتج عن تراكمات العقود الماضية، بحيث يكون التحرك لقيادة المفاوضات هو بداية الخروج من هذا الجمود وتطوير رؤية جديدة لدور مصر إقليمياً ودولياً.