د. وحيد عبدالمجيد
اختلفت مواقفنا فى مصر أشد الاختلاف تجاه العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة. وهذه هى المرة الأولى التى يحدث فيها ذلك تجاه عدوان تعرضنا فى مصر إلى مثله، بل أفظع وأشد إجراماً منه، عام 1967 وخلال حرب الاستنزاف. ولذلك عانقت أرواح أطفالنا شهداء مدرسة بحر البقر أرواح أشقائهم الفلسطينيين الذين استقبلوهم طوال الأيام الماضية فى رحاب الفردوس.
غير أنه علينا جميعاً بغض النظر عن مواقفنا المختلفة، أن نتأمل بعض الدروس التى ينطوى عليها هذا العدوان حتى إذا نظر بعضنا إلى الفلسطينيين الذين تعرضوا له باعتبارهم قوماً آخرين «غيرنا» لا علاقة لنا بهم.
أولها يتعلق بدلالة مشاعرنا فى مصر تجاه الآلام والعذابات المترتبة على المذابح الرهيبة التى حدثت خلال العدوان. فقد شعر معظمنا بالإشفاق على ضحايا هذه المذابح الذين كان أطفال ونساء وشيوخ فى مقدمتهم، وربما بكى بعضنا تأثراً بالمشاهد المفزعة التى نقلتها بعض وسائل الإعلام، ولكنه إشفاق لا يختلف فى الأغلب عما نشعر به تجاه ضحايا أى حادث فى أى سياق، فلم ترتبط مشاعرنا بالسياق المحدد لعدوان وحشى على الشعب الوحيد الذى مازال خاضعاً لاستعمار أجنبى فى عالم اليوم. ولم نستحضر غالباً تجربتنا فى مواجهة اعتداءات هذا الاستعمار الصهيونى علينا، واحتلاله لجزء من أرضنا قبل أن نستردها، فضلاً عن تاريخ نضالاتنا وتضحياتنا للتحرر من الاستعمار البريطانى قبل ذلك.
وربما لهذا السبب لم يقترن شعورنا تجاه أبناء غزة بتضامن واضح مع قضيتهم وليس فقط مع أشخاصهم، بل على العكس تبنى بعضنا الرواية الصهيونية القائلة إن السبيل الوحيد أمامهم لتجنب القتل والدمار هو الاستسلام للاحتلال والحصار.
ولكن الأهم من هذا بالنسبة إلينا فى اللحظة التاريخية التى تمر بها مصر الآن هو عجزنا فى الأغلب الأعم، وبدون تعميم بطبيعة الحال، عن إدراك أن للأوطان حقوقاً على أبنائها تستوجب منهم تضحيات سبق أن قدمها كثير من أبناء شعبنا عن طيب خاطر فى مراحل عدة سابقة.
غير أننا لم نضع تضحيات الغزاويين فى هذا السياق لأننا فقدنا بكل أسف روح التضحية التى تشتد حاجتنا إليها الآن أكثر من أى وقت مضى لبناء مصر جديدة. فقد أدت عقود التجريف الشامل الذى تعرض له مجتمعنا على مدى عقود إلى تراجع، وربما اختفاء، مفهوم المصلحة العامة فى ظل طغيان المصالح الخاصة والشخصية بأضيق معنى لها وبأوسع ما فى هذا المعنى من أنانية وطمع.
وهذا هو الدرس الأول، وربما الأكثر أهمية، الذى ينبغى أن نستوعبه، لأن استعادة روح التضحية التى فقدناها هى بداية الطريق لتجاوز أزمات هائلة متراكمة يصعب التعامل مع بعضها بل الكثير منها بدون استعداد للعطاء وما يقترن به من تضحية.
وثمة درس ثان علينا أن نستخلصه من همجية العدوان الإسرائيلى. فما كان للعدوان أن يبلغ ما بلغه من جنون إلا نتيجة فشل استراتيجى متزايد منذ أن ظهرت معالمه واضحة فى لبنان عام 2006. وستكون تداعيات هذا الفشل خطيرة للغاية فى حالة عدم التوصل إلى اتفاق هدنة طويلة يحرّر فلسطينيى غزة من الحصار الخانق ويضمن إعمارها وتنميتها. فبدون هدنة قابلة للاستمرار سيتصاعد الجنون الإسرائيلى، وقد يدفع إلى تشجيع صراعات داخلية ظلت كامنة نتيجة سيطرة حركة «حماس»، بما يحمله ذلك من خطر تحويل القطاع إلى ساحة صراعات مسلحة مفتوحة وإعادة إنتاج المشهد السورى على حدودنا، ويبقى درس ثالث يمكن أن نستخلصه من طريقة تعامل بعضنا مع العدوان على قطاع غزة، وهو أننا فقدنا الصلة بتاريخنا وما يمتلئ به من صفحات النضال ضد الاستعمار الصهيونى حماية لأمننا القومى فى المقام الأول ومن أجل فلسطين فى مرتبة تالية. ويعد افتقاد الصلة بالتاريخ أحد أخطر ما يتعرض له أى مجتمع فى لحظة انتقال كالتى نمر بها فى مصر، لأنه يعنى عدم القدرة على تحديد اتجاه المستقبل. فمن لا يعى تاريخه لا يعرف الطريق إلى مستقبله.