بقلم د. وحيد عبدالمجيد
إصلاح التعليم وتطويره أحد أهم مقومات انتقال أى مجتمع إلى العصر الحديث. وقد أدرك بعض رواَّد النهضة المصرية ذلك
عندما بذلوا جهدهم لإقامة الجامعة الأهلية التى أصبحت جامعة القاهرة الآن.
ولكن هذه النهضة تعثرت، فتسبب انتكاسها فى تدهور مستوى التعليم. كما أسهم هذا التدهور فى استمرار التعثر وتحوله إلى تراجع أعاد معظم قطاعات المجتمع إلى ما كانت عليه قبل العصر الحديث.
وربما لا يكفى تعبير التدهور لوصف حالة التعليم فى مصر الآن. ولذلك فليس غريباً أن يصل الجدل العام إلى المستوى المتدنى الذى بلغه، وأن يسود التسطيح العقلى وتهيمن السطحية على المشهد.
وفى مثل هذه الحالة، من الطبيعى أن يكون السؤال عن مدى المعرفة التى يقدمها نظامنا التعليمى بالفكر الإنسانى نوعاً من الترف والرفاهة، رغم أن المعارف المرتبطة بهذا الفكر ضرورية، حتى فى حدها الأدنى، لصحة العقل والقدرة على التفكير المنظَّم واستيعاب معنى الوجود الإنسانى وقيمته.
ومن هنا أهمية دور الفنانين المثقفين، وهم قليل فى مجال الإخراج السينمائى والتليفزيونى. ولهم فى المخرج الإيطالى الكبير روبرتو روسيلينى مثل يمكن الاقتداء به.
فقد اختار روسيلينى فى سنواته الأخيرة أن يُخرج أفلاماً تليفزيونية ذات طابع فكرى. وأخرج أفلاماً شاهدها أعداد لا تُحصى عن مفكرين بارزين فى تاريخ الفكر الإنسانى من سقراط فى العصور القديمة إلى ديكارت فى مطلع العصر الحديث. وأتاحت أفلامه لمن درسوا هذا الفكر فى المدارس والجامعات استعادته بطريقة مختلفة تعتمد على الصورة التى قد تستقر فى الأذهان أكثر من الكلمة.
ولكن المهم فى هذا النوع من الأفلام أن يكون المخرج ملماً بالأفكار التى يقدَّمها. فعندما قدم روسيلينى فيلمه الأّخاذ عن سقراط، كان هو الذى كتبه بنفسه اعتماداً على أهم ما قرأه عنه. ولذلك استطاع أن يصوَّر ببراعة موقف سقراط الشجاع من الموت عندما اتهمه الطغاة الأسبارطيون الذين غزوا أثينا بإفساد عقول الشباب، وحكموا عليه بالإعدام عبر تجرع السم.
كان الموت لدى سقراط انعتاقاً من الطغيان والعبودية، وتعبيراً عن الإصرار على حرية قومه. وهذا هو مغزى قوله رداً على الحكم عليه بالإعدام: (أنا أموت .. أما نحن فنعيش).
فهل يستطيع أحد مخرجينا المثقفين أن يقدم أعمالاً من هذا النوع، وهل يجد من لديه شجاعة الإنفاق على إنتاجها فى أجواء تسودها السطحية والميل إلى التسطيح.