د. وحيد عبدالمجيد
لا يكاد يمر يوم دون أن يُستخدم تعبير من نوع الانفلات أو الانحطاط أو أقله التجاوز لوصف ما يقوله بعضنا أو يفعله. وقليلاً ما يخلو يوم من شتم هنا أو سب هناك أو اشتباك لفظى ينحدر إلى مستوى متدن. ولذلك لا تتوقف محاولات فهم هذا الذى يحدث لنا، وتفسير ما يقترن به من تغير ملموس فى أنماط سلوكنا.
وحين يقترن ذلك بتدهور معرفى وثقافى عام وانحدار فى مستوى التعليم ومخرجاته، يسهل أن تنتشر تفسيرات سطحية أو غبر منطقية, مثل التفسير الذى يعيد ما يحدث فى مجتمعنا إلى الحرية التى انتزعها شعبنا فى ثورة 25 يناير بعد عقود من القهر والطغيان.
وبغض النظر عما بقى من هذه الثورة، فليس ممكناً بحكم العقل والمنطق أن نعيد ما يحدث فى مجتمعنا إلى حالة لم تمض عليها سوى أعوام قليلة، وليس إلى أوضاع استمرت عقوداً طويلة.
فالقاعدة المنطقية العامة التى تقول إن لكل نتيجة مقدماتها هى نفسها التى تقوم على أنه كلما تراكمت هذه المقدمات كانت تلك النتيجة أقوى سواء سلبياً أو إيجابياً. ووفقاً للقاعدة نفسها، ولقواعد المنطق عموماً، يرتبط التراكم بالزمن أو الوقت. فكلما ازداد الوقت، حدث مزيد من التراكم، والعكس.
ويعنى ذلك ببساطة أن حالة الحرية التى لم تحقق تراكماً يُذكر لا يمكن أن تكون هى المسئولة عما يحدث لنا الآن، بل حالة العبودية التى تفاوت فيها مستوى القهر من مرحلة إلى أخرى. كما يعنى أيضاً أننا نحتاج إلى وقت طويل ننعم فيه بالحرية لكى يحدث التراكم الذى يؤدى إلى حالة مختلفة عما نحن فيه الآن.
ورغم أن التفسير الصحيح لما يحدث لنا سهل على هذا النحو، إلا أن إدراكه يحتاج إلى وقت نتجاوز فيه الآثار العقلية لعقود القهر، بحيث نتمكن من إجراء حوارات موضوعية جادة بمنأى عن الاشتباكات والمهاترات والمعارك الصفرية التى هى جزء من حالتنا الراهنة.
وكان هذا بعض ما سعى الكاتب المسرحى الألمانى العظيم برتولد بريخت إلى توضيحه فى أكثر مسرحياته تسييساً «الخوف فى الرايخ الثالث» عام 1938، من خلال فكرة أبدع فى تجسيدها وهى أن استمرار الطغيان لوقت طويل يُحدث أثراً عميقاً فى نفوس الناس وعقولهم إلى حد أنهم لا يستطيعون التعامل مع الحرية حين تأتيهم بشكل مفاجئ.