توقيت القاهرة المحلي 15:28:38 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«حريتى أن أوسع زنزانتى» (2-2)

  مصر اليوم -

«حريتى أن أوسع زنزانتى» 22

عمار علي حسن


والجدار الثانى ضد حرية الكتّاب فى بلادنا، بعد غشم السلطة السياسية واستبدادها، صنعه تجار الدين الذين استغلوا حاجة الناس الروحية وإيمانهم العميق برب السماوات والأرض، وراحوا يشيّدون حائطاً عريضاً بينهم وبين جلال النصوص ومقاصد الشرع بتأويلات بشرية ادعى أصحابها أنها صحيح الدين، وما هى إلا محض اجتهادات تحتمل الصواب والخطأ، وتأويلات تحتمل الصدق والكذب، لكنهم يمنحونها قدسية وإطلاقية، ويجعلون من الدين الذى نزل لإسعاد الناس، من خلال تعميق الامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى والخيرية والنفع، مصدراً للشقاء والتعذيب والقتل والتخريب، بعد أن يحولوه إلى تجارة بائرة، أو أيديولوجية بائسة، أو عصاب نفسى ممقوت، أو إطار عام لتبرير استباحة الأرض والعرض والنفس والمال، من خلال الاستهانة بالمختلفين فى الاجتهاد أو التصور، فما بالنا بالمغايرين فى الاعتقاد والمذهب؟!

وإذا تمكنا من هدم هذا الجدار عبر التفريق بين «الإلهى» و«البشرى» وجعل العقل مكملاً لمسيرة الوحى وليس خصماً منها أو معارضاً لها، والوصول مباشرة إلى «النص الأساس» أو المؤسس، حسب وصف أدونيس فى كتابه المثير للجدل «الثابت والمتحول»، والإيمان العميق بحرية الاعتقاد، فسيكون علينا أن نواجه الجدار التالى، وهو لا يقل صلابة وقسوة عن الاثنين اللذين سبقاه.

هذا الجدار الثالث هو ما توارثناه من عادات وتقاليد اجتماعية بالية، تخل بقيمة الحرية قدر ما تجرح قيم المساواة بقسوة، وذلك مثل تقدير مكانة الشخص بجذوره العائلية وليس بما حقق من إنجاز، واعتبار صاحب المنصب الرسمى، حتى لو كان لصاً ومنافقاً وجباناً، أهم مكانة وأرفع وضعاً ممن لم يحظ بالمناصب حتى لو كان عالماً فذاً أو مبدعاً موهوباً، أو حتى مجرد مواطن بسيط لكنه شريف ونزيه ونظيف اليد ومعطاء.

ولا يتسع المقام هنا لأحصى عشرات العادات التى يجب وأدها، وإن كنت أقول إن هناك من التقاليد الحميدة ما يجب أن نعض عليه بالنواجذ، وأعتقد فى أن القديم لا يمكن أن يموت كله. وفى المقابل يوجد من العادات ما يشكل عقبة كبيرة أمام بلوغ سقف كاف من الحرية، حتى تخف حمولة الزنازين التى نحملها فوق ظهورنا المكدودة. وهذه العادات تدور فى الغالب الأعم حول التابوهات الثلاثة: الدين والسياسة والجنس، وتصنع عبر رسوخها فى النفوس والعقول حبالاً متينة تلتف حول الأقلام لتعيقها وتقيدها، ولا ينجو من قيودها سوى قلة من الكتّاب أبت أن يحد من حريتها شىء سوى ما تمليه الضمائر وتجود به النفوس الأبية ويفرضه العمل فى سبيل نفع الناس والاتقاء بمعاشهم.

وفى بعض مداميك هذا الجدار يتم استحضار عموم الناس وعوامهم من قبَل السلطة السياسية لمطاردة وحصار وتجريس المختلفين معها أو المعارضين لها، فى حال أقرب إلى «المكارثية» أو «الفاشية»، مرة بتكفير المخالفين باسم الدين، وأخرى بتخوينهم باسم الوطن، وثالثة بتكميم أفواههم لأن البلاد فى حرب مستمرة من نوع مختلف، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

هنا يشعر المختلف بأنه معزول، وقد تطلق ضده شائعات مغرضة تنال من حياته الخاصة ودوره العام، وتجرح صورته فى عيون الناس بلا رحمة ولا ورع، وعليه فى هذه الحال إما أن يستسلم أو يصمت أو يتحايل على الأكثر ليجارى القطيع، ويمكنه فى المقابل أن يتمتع بجسارة رافعاً لافتة «لا تستوحشوا طريق الحق وإن قل سالكوه»، ويراهن على أن الأيام تعمل لصالحه، وستبرهن على صدق ما يقول وما يكتب وما يفعل وما يطلب، لأن الزبد يذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث فى الأرض.

وإذا تخطينا الجدار الثالث هدماً أو عبوراً كان علينا أن نواجه الجدار الأكثر ارتفاعاً والأكبر سمكاً، وهو ما فى أنفسنا من قيود تقفز رقيباً ذاتياً لحظة الكتابة، وتلعثماً وقت المجاهرة بالحق والصدق، وقعوداً إذا دعا الداعى إلى يوم الحرية الأكبر، ولامبالاة فى مواجهة ظاهرة «الفرز العكسى» فى مؤسساتنا التى تثيب ضعاف الإمكانيات وتحط من قدر المتمكنين، لا لشىء سوى لأنهم معتدون بأنفسهم، غيورون على المصلحة العامة، مجاهرون بمقاومة الفساد والتحكم الإدارى البليد. كما يمتشق هذا الجدار الداخلى حين نضعف أمام ملذات الدنيا، فيتحول الإنسان لدينا إلى سلعة، والسلعة إلى قيمة عظمى، وننسى أن الله قد خلق الأشياء لخدمتنا، ولم يخلقنا لخدمتها.

وما فى نفوس الكتّاب من قيود يعود بالدرجة الأساسية إلى التأثير الضاغط للبيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى يعملون فيها، فقهر السلطة لبعض الكتاب سجناً وتجريساً وتنكيلاً، ووجود العادات التى تنفّر من الحرية وتألف الاستعباد، والظروف المعيشية الصعبة لأرباب القلم، تشكل جميعاً سياقاً قابضاً على نفس الكاتب ووجدانه، ولا يقاومها إلا من امتلك قدرات فائقة تمكنه من أن ألا يبالى بذهب السلطة أو سيفها، وآراء عوام الناس وتحيزاتهم، وشظف العيش وقسوته. ومهما كان سمك جدران الزنزانة وارتفاعها فلا بد من هدمها مهما طال الزمن، وقل الزاد، وامتد الطريق. وحين تسقط هذه الجدران الأربعة نكون قد وسّعنا الزنازين، بالقدر الذى يجعل أعناقنا بوسعها أن ترى حواف السجن الكبير، لنرفع من سقف شعارنا فيصبح «حريتنا أن نهدم السجن ونجعل السجّان يتسول الغفران».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«حريتى أن أوسع زنزانتى» 22 «حريتى أن أوسع زنزانتى» 22



GMT 15:28 2024 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

هل يسهل نزع السلاح؟

GMT 15:20 2024 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

فقه الأولويات

GMT 10:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المايسترو

GMT 10:35 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أندلس قاسم سليماني... المفقود

GMT 10:33 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

البراغماتيتان «الجهادية» والتقدمية... أيهما تربح السباق؟

GMT 10:31 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

... وَحَسْبُكَ أنّه استقلالُ

GMT 10:30 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

تصادم الخرائط

GMT 10:28 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

اقتصاد أوروبا بين مطرقة أميركا وسندان الصين

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024
  مصر اليوم - المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024

GMT 08:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 07:41 2024 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه
  مصر اليوم - ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات
  مصر اليوم - ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات

GMT 08:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الشرع تُؤكد أن سوريا لن تكون منصة قلق لأي دولة عربية

GMT 03:29 2020 السبت ,14 آذار/ مارس

بورصة تونس تغلق التعاملات على انخفاض

GMT 14:03 2020 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أول تعليق من محمد منير بعد وفاة مدير أعماله وزوج شقيقته

GMT 06:49 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

عزل ترامب
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon