يدفع الإرهاب الدولة لشحذ طاقاتها فى مواجهته، أما الفساد فيدمر هذه الطاقات أصلا. وإذا كنا نتحدث عن حرب ضد الإرهاب، والأمر فعلا كذلك، فالحرب، كما يقول الفيلسوف الألمانى هيجل، تكون فى بعض الأحوال «الحجر الذى يلقى فى البحيرة الراكدة فيمنعها من التعفن»، أما الفساد ففى نظرى هو بمنزلة ماء آسن يزيد هذه البحيرة ركودا وتعفنا.
لا يعنى هذا بأى حال من الأحوال التقليل من خطورة الإرهاب، لاسيما فى موجته الخامسة المدعومة بأموال طائلة، والمدفوعة بنوايا أكثر خبثا، والموظفة لخدمة أهداف أطراف لا تريد خيرا، لكن يعنى أننا يجب أن نحارب الفساد بالقوة ذاتها التى نحارب بها الإرهاب، وربما بقوة أشد.
فمما لا شك فيه أن محاربة الفساد أمر مهم لأسباب عديدة، والسبب البديهى الأول هو أن تداعيات الفساد تؤدى إلى موت أشخاص أبرياء، وخسارات اقتصادية ضخمة. فالفساد يزيد من كلفة الأنشطة الاقتصادية، ويخرب قوانين المنافسة، ويلغى إمكانات تمكن الزبون من اختيار الحل المناسب لمشكلته.
وعلينا أن نعمل خيالنا حيال ثلاثة أمور ونحن ننظر فى العلاقة بين الفساد والإرهاب، سواء فى تأثير كل منهما فى الآخر أو فى ترتيب أولوياتنا، ألا وهى:
1 ـ لا يمكن تأجيل المعركة ضد المفسدين بدعوى أننا نحارب الإرهاب، فمثل هذا الوضع يؤدى تباعا إلى إضعاف قدرة الدولة على المواجهة الشاملة للإرهابيين.
2 ـ لا يمكن أن نربح المعركة ضد الإرهابيين إن استعنا بالمفسدين فى وسط رجال المال والأعمال وجهاز الأمن وبيروقراطية الدولة والإعلاميين والمثقفين، فولاء مثل هؤلاء لأنفسهم، واستعدادهم لبذل الجهد والتضحية يكاد ينعدم أو هو ضئيل، مما يجعل مساهمتهم فى مواجهة الإرهاب مظهرية وعابرة ومترددة.
3 ـ إن الإرهاب يسعى إلى توظيف الفساد، وما يحدثه من إنهاك لقوة الدولة، فى تبرير ما يفعله القتلة والمخربون، وخلق دوائر من المتعاطفين، أو على الأقل دفع الشعب إلى الوقوف على الحياد أو أقرب إليه فى المعركة ضد الإرهاب، وهذا وضع غاية فى الخطورة لا يفيد سوى من يقتلون ويدمرون.
على وجه العموم هناك أمران أساسيان يجب أن يقالا فى تشخيص الفساد أو وصفه هما:
1 ـ يتدرج الفساد من الصغير الذى نلمسه فى دهاليز الجهازين البيروقراطى والأمنى وساحات الإنصاف والتعليم والتطبيب، وصولا إلى العمليات الاقتصادية الضخمة التى تقدر قيمتها بالمليارات، وبالتتابع يتزايد حجمه، وتتسع دائرته، وتتشابك حلقاته، وتترابط آلياته.
فممارسة الفساد، من رشوة ومحسوبية ووساطة، لم تعد قاصرة على الكبار فقط، بل امتدت إلى الصغار أو الفقراء، بفعل سياسات الإفقار، وتفاوت الدخول، والارتفاع المستمر للأسعار، وغياب القدوة فى قمة هرم السلطة والمجتمع، وتآكل دور أجهزة الرقابة على قطاعات الخدمات الحكومية وغير الحكومية. حسبما يقول عبدالخالق فاروق فى كتابه «اقتصاديات الفساد فى مصر».
2 ـ لا يقتصر الفساد على الجانب المالى، إنما يمتد إلى الفساد الإدارى والسياسى. فالأول على بشاعته هو الأقل ضررا، لأن بعض الفاسدين يعيدون تدوير ما حصلوه من أموال فى عجلة الاقتصاد الوطنى، أما الثانى فهو مهلكة، لأنه يجعل الأردأ يصعد والأكفأ يهبط، فتُحرم الدولة من عطاء العقول المبدعة، وتتحلل قواها تدريجيا. ولعل المثل الذى يذكر دوما فى هذا المضمار هو العميل الذى جندته الولايات المتحدة الأمريكية فى الاتحاد السوفيتى الذى انهار، وطلبت منه فقط أن يختار الأقل كفاءة إذا عرضت أمامه أسماء من سيتولون المناصب القيادية فى البلاد. والفساد السياسى له أضرار جمة مميتة، ولا نبالغ إن قلنا إنه أس الفساد والبلاء، وقد يكون جانبا لا يستهان به من النوع الأخير من الفساد مرده إلى فقر الخيال السياسى، الذى يجعل من بيدهم مقاليد الأمور يعتقدون أن بوسعهم أن يفعلوا ما يشاءون باستمرار ودون تحسب، وأنهم فى كل الأوقات والأحوال سيمرون بسلام.
ووفق هذا التداخل والتواشج بين أشكال الفساد تلك فإنه «عادة ما يحدث الفساد الكبير على المستويين السياسى والبيروقراطى مع ملاحظة أن الأول يمكن أن يكون مستقلا، بدرجة أو بأخرى، عن الثانى، أو يمكن أن يكون بينهما درجة عالية من التداخل والتشابك، إذ عادة ما يرتبط الفساد السياسى بتفصيل قوانين الانتخابات، وتمويل الحملات الانتخابية، وعدم سن التشريعات التى تضمن غياب تضارب المصالح المالية لدى النواب والوزراء وكبار الموظفين، حتى لا تتحول الوظائف الإدارية العليا إلى أدوات للإثراء الشخصى المتصاعد»، وهذا ما يستنتجه د.محمود عبدالفضيل فى كتابه «رأسمالية المحاسيب».
وقد تنبه ابن خلدون فى المقدمة عن إفساد السلطة بالمال، فتحدث عن الجاه المفيد للمال، فالمال فى نظره بات تابعا للجاه، مع اختلاط التجارة بالإمارة، وهنا يقول: «اعلم أن السلطان لا ينمى ماله ولا يدر موجوده إلا الجباية، وإدرارها إنما يكول بالعدل فى أهل الأموال، والنظر لهم بذلك، فبذلك تنبسط آمالهم، وتنشرح صدورهم للأخذ فى تثمير الأموال وتنميتها، فتعظم منها جباية السلطان، وأما غير ذلك من تجارة أو فلاحة فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة، وقد ينتهى الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين فى البلدان أنهم يتعرضون لشراء الغلات والسلع من أربابها الواردين على بلدهم، ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاءون ويبيعونها فى وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن، وهذا أشد من الأولى وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم».
وفى كتابه «الرقص مع الفساد» يقسم د.محمد رؤوف حامد الفساد إلى:
أ ـ الفساد السياسى، ويقوم على إحداث انحراف فى التوجهات وصنع الأهداف الخاصة بالمنظومة، سواء كانت الدولة أو مؤسسة كبرى أو حزبا سياسيا أو جمعية أهلية، بما يخلق مناخا يسمح بالنفع الخاص على حساب المصلحة العامة ويراكم الفوائد غير المشروعة.
ب ـ الفساد الإدارى، والذى يعنى عطب عمليات إخضاع تسيير الأعمال من حيث التعيين والتقييم واختيار القيادات لما يتماشى مع ما تقتضيه المصالح الخاصة، بما يؤدى إلى تراجع كفاءة المنظومة.
ج ـ الفساد المالى، ويظهر فى شكل احتكارات وسرقات ورشاوى وعمولات، وبالتفصيل يمتد إلى تخصيص أراضى الدولة لأفراد محددين وحرمان الأغلبية الكاسحة منها، والمحاباة والمحسوبية، وإعادة تدوير المعونات الأجنبية، وقروض المجاملة، وعمولات عقود البنية التحتية، وصفقات السلاح، والعمولات والإتاوات التى يتم الحصول عليها بحكم المنصب أو الوظيفة العامة.
وهناك من يقسم الفساد الإدارى والمالى معا إلى صنفين «نشط» و«سلبى»، وقد فصل قانون العقوبات الفرنسى مثلا فى هذا طويلا، فعرف الأول بأنه «سعى الموظف الحكومى بنشاط من أجل الحصول على هدية أو منفعة أو رشوة قبل تقديمه الخدمة أو منح العقد»، أما الثانى فقد عرفه بأنه «قبول المسؤول لهدية أو مكافأة أخرى بعد منح العقد أو تقديم الخدمة».
3 ـ الفساد ظاهرة مركبة، متعددة الأوجه والأساليب والتوجهات، فهو يمكن أن يولد ويترعرع ويتمدد رأسيا وأفقيا داخل كيان مجتمعى دون أن نشعر به أو نلمسه فى البداية على الأقل، وهذا ما يسمى بـ«الفساد الصامت». ويمكنه أيضا أن يمارس نوعا من الخداع المزدوج، فتبدو المؤسسات الفاسدة فى البداية كفؤة وناجحة فى نظر الناس، وقد تظل هذه الصورة قائمة لمدة، إلى أن يتم اكتشاف الأمر وفضحه. ويمتلك الفساد قدرة على الانتشار الذاتى، فينتقل كوباء ذى وضع خاص من بيئة لأخرى بالعدوى، فنظرا لازدياد عدد الفاسدين فى الأوساط الاجتماعية المحيطة بالفرد النزيه والمؤسسة النزيهة، يمكن أن يفسد هذا، وتفسد تلك، بانتقال عدوى الفساد إليه وإليها. كما يمكن للفساد أن يتصاعد حلزونيا فى المجتمع بمصاحبة انتهاك الأمانة، حيث يبرر الفاسد لنفسه خروجه على مقتضيات الأمانة، أو يقع تحت ضغط ما يدفعه إلى هذا دفعا، أو يجد فرصة مواتية لارتكاب الفساد وهو موقن أن بوسعه أن يفلت من العقاب. ويستفيد الفساد من أجواء الاستبداد، إذ إن المساءلة والرقابة اللتين يتسم بهما النظام الديمقراطى تعملان معا على تقويض أركان الفساد وملاحقة المفسدين.
نقلاً عن "المصري اليوم"