عمار علي حسن
جاء الخطاب الفكرى الإسلامى فى تمسكه بالخصوصية الثقافية فى وجه عولمتها، خطاباً عاماً، كغيره من الخطابات التى تصدت لهذه القضية وغيرها فى سياق الأخذ والرد بشأن ما يسمى «النظام الدولى الجديد»، ثم «العولمة» وأخيراً ما نتج عن حادث 11 سبتمبر. وهذه العمومية جعلت الخطاب الدينى فى هذه المرحلة أشبه بإعلان المواقف السريعة، بما يجعله قابلاً للتغير مع تطورات الأزمة المستمرة، ويبعده عن التأصيل والتعمق الفقهى والفلسفى، الذى ميز هذا الخطاب فى مراحل سابقة، وحول قضايا أخرى.
وما يستحق إمعان النظر، نظراً للجدة والجدية والأهمية، هو رؤية هذا الخطاب للعولمة الثقافية مقابل خصوصيتها، فى المجمل والكلى أو فى الأصول والأسس، نظراً لأن العولمة تعنى بالسياسة والاقتصاد مباشرة، وتعطيهما أولوية على الثقافة، والأخيرة إما أن تتحول إلى خادم للأهداف الاستراتيجية لقادة العولمة أو تأتى تابعاً لتحولات سياسية واقتصادية فى المجتمعات المحلية بفعل التأثير الكاسح للعولمة.
وتفرض طبيعة الإسلام ذاته أن تكون له رؤية حيال العولمة الثقافية، وهذه مسألة يعترف بها المفكرون الغربيون أنفسهم فها هو «فيك جورج» يقول: «الإسلام ليس ديناً فقط، بل طريقة للحياة أيضاً، مما جعل عديداً من المسلمين يعتقدون أن ضغوط الحياة الغربية التى تنتقل إليهم من خلال شبكات الاتصال الثقافية الدولية تمثل تهديداً للإسلام». بل يفصل جون بيليس وستيف سميث فى تبيان ردود أفعال المسلمين الأولية على الثقافة الغربية التى حملتها العولمة بقولهما: «فى منطقة الشرق الأوسط جرى التأكيد مجدداً على القيم الإسلامية، بصفتها ظاهرة جماهيرية. وسعت أنظمة الحكم الإسلامية فى المملكة العربية السعودية وإيران إلى استبعاد الأخبار والأفلام وأشرطة الفيديو الموسيقية والأفلام من طراز Baywatch من خلال حظر استقبال الإرسال التليفزيونى الفضائى. وبرزت مكانة المرأة فى المجتمع، وعلى الأخص قضية الحجاب، بصفتها رمزاً رئيسياً للإسلاميين، الذين يسعون لتعزيز مؤسسات المقاومة الثقافية، والسيطرة الاجتماعية».
لكن ردود الفعل هذه ازدادت عمقاً عقب حدث الحادى عشر من سبتمبر 2001 ومطالبة الولايات المتحدة الأمريكية بتعديل مناهج التعليم الدينى، وبالتبعية تغيير الخطاب الإسلامى حيال الغرب، بالتوازى مع مطالبه بتعزيز التحول صوب الديمقراطية، بعد أن ربط التفكير الاستراتيجى الأمريكى بين الإرهاب والاستبداد، الأمر الذى قاد إلى نقاش وجدل عميقين حول «الإصلاح» بما فيه الإصلاح الثقافى، الذى لا يقتصر على تنظيم الهياكل والإجراءات، بل يمتد إلى مجال القيم ذاته.
عند هذا الحد عاد جزء كبير من الحديث عن «الخصوصية الثقافية» والعولمة إلى مناقشة العموميات والمبادئ، حول القيم والنظم والعلاقة مع الآخر والهوية، خاصة مع استمرار أمريكا فى طرح مشروعات محددة لإعادة صياغة المنطقة على أسس جديدة، مثلما جاء فى مشروعات سياسية حملت أسماء «الشرق الأوسط الكبير»، ثم «الموسع»، و«الجديد»، وفى أطروحات فكرية مهدت لمثل هذه المشروعات وغيرها، مثل كتاب صمويل هنتنجتون «صدام الحضارات»، وكتاب فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ وخاتم البشر».
وهنا وجدت قضية الخصوصية الثقافية نفسها موزعة على سبيلين، الأول هو أنها باتت جزءاً من المقاومة الشاملة لهذه المشروعات وتلك الاستراتيجيات ذات الطابع الاستعمارى، خاصة فى ظل إدراك مفكرى الإسلام وفقهائه لمآرب اليمين المسيحى المتصهين الذى وصل إلى سدة الحكم فى الولايات المتحدة، أما الثانى فهو دخول هذا النوع من الخصوصيات ضمن النقاش العام حول تجديد الخطاب الدينى، ليس استجابة لمطالب خارجية، ولا انصياعاً لها، لكن رغبة فى مواصلة الاجتهاد حول القضايا المستجدة، وتوسيع معالم ومدارك ومباحث «فقه الواقع»، وهى مسألة متصلة منذ صدر الإسلام، ولا يمكن لمنصف أن يعزو ما ينتجه المتحمسون لهذا الاتجاه فى الوقت الراهن إلى مواكبة المشروعات الأمريكية، أو الانكسار أمامها.